لم يعد من الممكن والمفيد اليوم رؤية قطاع التعليم او جزء من مكوناته مستقلا بذاته او في ضوء نفسه لان النظام التعليمي بمراحله وانواعه، بنظمه ومناهجه، بوسائله وطرائقه، هي كل عضوي لا يتجزأ. والتوجيه والارشاد التربوي من خلال هذا المنظور الكلي للنظام التعليمي ما هو الا نظام فرعي له يخضع لشروطه ويعتبر محصلة عوامله لأنه جزء لا يتجزأ من التعليم العام ووجه من اوجه التربية المستديمة ومن هنا فانه ما لم تعدل خصائص النظام التعليمي وشروطه المؤثرة في التوجيه والارشاد فسوف يضل تجويد وتطوير التوجيه والارشاد التربوي عملا هامشيا او سطحيا او طارئا.
ان المشكلات التي تعيق تطور نظامنا التعليمي انما يرجع الى المعالجات الجزئية لقضاياه والنظرة المجزأة المنفردة لكل مشكلة من مشكلاته على حدة، الامر الذي يستوجب ان تؤخذ قضايا التعليم ومشكلاته في شموليتها وكلياتها وفي تكاملها ووحدتها حتى يكون اسلوب مواجهة المشكلات متصفا بالشمول. ولقد تنبهت الرؤية الاستراتيجية للإصلاح الى هذا الخلل وادركت ان محدودية جودة التربية والتكوين ناتج بسبب (الاختلال البارز للمدرسة بمختلف مكوناتها ولذلك يشكل الرفع من مقومات الجودة لدى الفاعلين التربويين وفي المناهج والبرامج والتكوينات وفي حكامة المدرسة.. افقأ حاسما لتجديد المدرسة المغربية وضمان جاذبيتها وجدواها من هذا المنطلق يتعين العمل في المدى القريب على بناء نموذج مرجعي وطني للجودة) الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030-(ص28). واكدت الرؤية الاستراتيجية للإصلاح على حاجة المدرسة المغربية إلى تحقيق مزيد من التنويع والتكامل والتنسيق في التكوين والتأهيل من اجل تمكين المتعلمين من متابعة المسار الدراسي والتكويني لأطول مدة وتكريس اختيار المشروع الشخصي والرفع من مستوى التأهيل وهو ما سيؤدي إلى الرفع من منسوبية الجودة في نظام التوجيه المدرسي والمهني و الإرشاد التربوي.
ان المواجهة الصريحة لكل الاختلالات البنيوية لمنظومتنا التعليمية تقتضي الغاء الحواجز القائمة بين مختلف مراحل التعليم ومجالاته وبناء بنى تربوية مفتوحة ومرنة تراعي احتياجات الافراد التعليمية وتطور المهن والوظائف وهو ما يتطلب وقفة حاسمة امام انقسام هذه المنظومة بين تعليم عام واخر مهني وتقني وكأننا امام تعليم للصفوة واخر لمن هم اقل حظا اجتماعيا وثقافيا. وهذا التقسيم "الطبقي" نبده الفكر التربوي المعاصر وابان ان هذه الثنائية او هذا التعدد (وليس التنوع) هو من بقايا ماض وظلال نظم اجتماعية تمثل فترات ولت لا حياة لها في عصر الديموقراطية وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان.
التوجيه والارشاد والاعلام من الركائز الاساسية للنظام التربوي
اعتبارا لأهمية الارشاد والتوجيه التربوي في مساعدتهما للتلميذ (ة) على تحديد ميولا ته واختياراته ومستقبله الدراسي والمهني واعتبارا للمكانة التي يحتلها التوجيه التربوي في كل مشاريع الإصلاح السابقة والحالية فقد أصبح مجال الإعلام والارشاد والتوجيه التربوي يكتسي أهمية كبيرة في إعداد وتأهيل الأفراد لتحمل مسؤولياتهم مع القدرة على مسايرة المستجدات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية.
وحتى لا يبقى تعليمنا مبثورا لا هو يلبي حاجات السوق العادية ولا هو يلبي حاجات السوق المتخصصة فانه كان لزما على السلطات الحكومية و الادارات التربوية الارتكاز على خدمات التوجيه والارشاد التربوي والمهني وخدمات البحوث والدراسات العلمية والتربوية لأنها تمثل ركائز اساسية في نجاح السياسة التعليمية وتطورها حتى يصبح تعليمنا مرتبطا بالحياة وبالمواطنة وبداية لتأسيس افق مستقبل مهني ودراسي ولقد نص الميثاق الوطني للتربية والتكوين على اهمية دور الموجه وتدعيم تدخلاته بما يفيد المتعلم في كل المجالات الأساسية منها:
تعريف التلميذ بنفسه – مساعدته على معرفة المحيط المدرسي والتكويني- مساعدته على معرفة المحيط الاجتماعي والاقتصادي– مساعدته على اختيار مستقبله الدراسي أو المهني.
ان مساعدة التلميذ على التعرف على قدراته وامكاناته ومتطلبات الدراسة التي يود الالتحاق بها والقدرات اللازمة للنجاح والتفوق فيها وطبيعة الشعب والمسالك الدراسية والمهنية التي يعد بها هذا النظام التعليمي ومتطلباته كلها خدمات وتوجيهات وارشادات لم تعد مجرد نصائح تقدم للتلميذ او خدمات تستند الى الخبرة والتجربة بل انه اصبح التوجيه والارشاد عملية علمية تستند الى اختبارات وقياسات وادوات تقيس الذكاء والاستعدادات الخاصة والميولات الشخصية.
و انه اذا كانت قد بدلت مجهودات محمودة "لاستيراد" او ترجمة الكثير من الاختبارات والاقيسة والروائز المستخدمة في نطاق تحديد الميولات والكفاءات وتم العمل ببعضها في العديد التجارب لعلها تكون ملائمة لبيئتنا المحلية ومنها على سبيل المثال اختبارات الميول وخصوصا منها المتعلقة بالميولات المهنية (تفضيل الافراد لميولات معينة من النشاط)–( كيودر) - او اختبارات الميول والقيم وهي اداة لقياس القيم الهامة التي تؤثر في سلوك الانسان مثل القيم الاقتصادية وغيرها(البورت- فرتون) الى غيرها من الروائز والتجارب الممارسة في مهنة الارشاد (هولاند).
لكن هذه الاختبارات وغيرها تبقى محصورة في اطار محدود (مؤسسات معدودة) اوفي اطار بحوث علمية جامعية وفي اقسام مختصة بعلم النفس او علم التربية او في اطار البحوث الاكاديمية ولم تنتقل وتعمم لتصبح جزءا من بنية المدرسة والمؤسسة التعليمية بل لا وجود لها حتى في المؤسسات والثانويات التقنية وقد يرجع ذلك الى عدم توافر الاطر المتخصصة في التوجيه والارشاد الفني والتقني القادرة على تقديم هذه الخدمات.
ونرى ان عملية اختيار التلميذ لتخصصه ما تزال تعتمد على اعتبارات غير موضوعية كاتجاهات الاباء والقرناء والاصدقاء مما يحرم التلميذ من الافادة من التوجيه المستند الى الاساليب العلمية التي توفر له اساسا علميا لاختيار التوجه الدراسي او المهني الذي يلائم قدراته.
اما ما يتعلق بالبحوث والدراسات العلمية والتربوية التي يمكن ان تزود التعليم بالظهير العلمي الذي يتناول مشكلاته بالبحث والدراسة ويوفر لأطر التخطيط والتوجيه وكل المشرفين على النظام التعليمي معلومات كافية ومتجددة وتفصيلية وتتابع التطورات التي تطرا على حجم ونوع احتياجات سوق العمل كما ان من شان هذه البحوث العلمية ان تعين السياسيين والادارات الحكومية المرتبطة بالشأن التعليمي على اختيار السياسات التعليمية وبرامجها الملائمة التي تكفل التوافق بين اعداد المتخرجين في التعليم وحاجات التنمية ومشروعاتها في المجتمع الذي تخدمه.
وانه رغم هذه النقائص فإننا لا نستطيع ان ننكر الجهود المبذولة سواء من المؤسسات المهتمة بالتخطيط والدراسات المستقبلية او اللجان المختصة بقضايا التوجيه اومن الافراد من الباحثين والمستشارين في التوجيه والارشاد التربوي الذين قدموا ويقدمون جهودا علمية لبحث كل جوانب التربية والتعليم ودراسة مشكلاته لكن هذه الجهود لا تزال محدودة ومتواضعة تلاقي صعوبات بالغة في الحصول على البيانات ولا تتوافر لها الوسائل الفعالة لتصبح في متناول الممارس الميداني لتوجه جهوده وترشد مساره.
ان حقل التوجيه والارشاد التربوي هو حقل شاسع من الناحية الأبستمولوجية إذ تتلقى وتتداخل فيه مجموعة من العلوم كما انه حقل شاسع من ناحية أبعاد وظيفته ولقد منح له الميثاق الوطني للتربية والتكوين ادوارا عديدة من قبيل تقويم القدرات وصعوبات التعلم – الدعم البيداغوجي المستدام – تعزيز التربية على الاختيار..
إن التوجيه والارشاد التربوي لهما مكانة هامة في الحياة المدرسية لكن القائمين على تدبير القطاع يجهلون أو يتجاهلون هذه الأهمية مما نتج عنه ضعف دور وفعالية التوجيه التربوي لتطفو على السطح مجموعة من الاختلالات التي انعكست على المردودية الداخلية والخارجية للنظام التربوي من قبيل :
أ - عدم التوازن بين الشعب والتخصصات وفي التوجيه غير الملائم أو التوجيه المبني على حاجيات الخريطة المدرسية والمتطلبات العددية عوض التعرف على الاستعدادات والمؤهلات الذاتية المساعدة على متابعة الدراسة والنجاح فيها إضافة إلى نقص في الإعلام المدرسي وعدم نشر المعلومات بشكل ناجع ومدروس. وفي ظل غياب هذه النجاعة التوجيهية داخل المؤسسات التعليمية وافتقار التلاميذ في اغلب المدارس والمؤسسات للاستشارة والتوجيه الجيد فانهم يضطرون للجوء الى الاستشارة المستقلة لذى المؤسسات الخصوصية او لذى "الخبراء" في مثل هذه الاستشارات المدفوعة الاجر.
ب- غياب أو ضعف استعمال الروائز السيكو تقنية وفي المقابل الإبقاء على التقويم التربوي وحده كمعيار أساسي في عملية التوجيه مما يجعل القرارات المتخذة في مجلس التوجيه لا تكون دائما سليمة أو مناسبة لان مجرد تفاوت بسيط في عملية التقويم الإجمالي للتلميذ قد يخلق خللا هاما ليس في تقدير درجة استحقاقه فقط بل بعملية التوجيه في حد ذاتها كما ان اعتماد عمليات التوجيه على التقويم والامتحانات قد تفقد مصداقيتها حيث لوحظ في السنوات الاخيرة ظاهرة التسابق المجاني بين المؤسسات او بين الافراد مما ادى الى حدوث تضخم ملحوظ في المعدلات العامة او الخاصة بالمواد الرئيسة حتى اصيبت الثانويات العمومية والخصوصية بالتخمة وستزداد حدة اذا لم يتم مراجعة نظام التوجيه. وهذا التضخم الكبير في المعدلات قد يحصل – بشكل حقيقي - في المؤسسات التي تتوفر على امكانيات وظروف ملائمة من حيث الامكانات والموارد والتجهيزات عكس المؤسسات التي تقبع في المناطق النائية. وهكذا بدأت تطفو على السطح سلوكات غير تربوية وغير سليمة ومنها ضغط الاباء بل وحتى المديرين بفرض مزيد من الضغوط على المدرسين لتفادي "تدمير" فرص اولادهم بالقبول في المؤسسات المفضلة لديهم مع منحهم معدلات مرتفعة حتى تظهر مؤسساتهم وكأنها رائدة في النجاح والاستحقاق.
ولذا جاءت الرؤية الاستراتيجية للإصلاح بمراجعة شاملة لنظام التوجيه التربوي والمهني ودعت إلى (تجديد الآليات المعتمدة في التوجيه التربوي باعتماد الروائز بدل المعدلات ومراعاة ميول وقدرات المتعلمين ومشاريعهم الشخصية)
اننا حين نمعن النظر في كل المشكلات التي تهم قطاع التوجيه والاعلام والارشاد التربوي يتضح لنا بجلاء ان هذه المشكلات بكافة اصنافها ودرجاتها اكبر من ان تحل داخل نطاق هذا القطاع وانما من خلال نظام التعليم الذي يحتويه. فالتوجيه ليس قضية جزئية يمكن حلها بالزيادة في الموارد البشرية والمادية او تغيير نظام التقويم او اعادة النظر في البنى والهياكل التنظيمية مع اهمية كل ذلك وضرورته، وانما القضية تحل في اطار النظام التعليمي في شموليته وفي اطار الخطة الشاملة للتنمية البشرية في المجتمع حتى يكون اسلوب مواجهة المشكلات متصفا بالشمول لا بالمعالجة الجزئية او المنفردة فالقيود التي تكبل تعليمنا مرتبطة بجملة من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية ونوعية القيم السائدة فيه.
اذن فالمدخل الحقيقي لفك اسر هذا القطاع (التوجيه) هو المواجهة الشاملة لا المعالجة الجزئية .
ذ. محمد بادرة