تفتقت عبقرية بعض الأصوات الحكومية عن فكرة تحميل الأساتذة المضربين ضياع الزمن المدرسي الذي يعتبر التلميذ ضحيته الكبرى. ويخفي هذا الرأي توجها نحو شيطنة الأستاذ في عين أولياء أمور التلاميذ وجعله المسؤول الأول عن ضياع مستقبل أبنائهم، وهذه محاولة سخيفة من الوزير ومستشاريه لتغطية الشمس بالغربال، فالجميع يعرف أن المسؤول عن هذه الوضعية هو الوزير في المقام الأول والحكومة في المقام الثاني، والتي تكيل مع رجال التعليم بمكيالين. ففي الوقت الذي يرفض بنموسى الزيادة في أجور الأساتذة، نرى كيف أن الميراوي وزير التعليم العالي يخصص 7000 درهم شهريا كمنحة لطلبة الدكتوراه لمدة ثلاث. سنوات هكذا سيكون عندنا طالب باحث يستفيد من 7000 درهم كمنحة شهرية وأستاذ بدرس التلاميذ في أعالي الجبال لا تتعدى أجرته 5000 درهم. فهل على حقيبة التعليم الأولي أن يتحملها وزير من الأصالة والمعاصرة عوض تكنوقراطيي الأحرار لكي حل مشاكل القطاع كما يصنع وزير التعليم العالي؟
واليوم انتشرت إشاعات كثيرة عقب لقاء رئيس الحكومة مع النقابات التعليمية تعلن عن سحب النظام الأساسي ومن ضمن مروجي هذه الإشاعات تجد "مؤثرين" يعتقدون بأن الشمس ستشرق غدا على مقر باب الرواح بفضلهم ومن بين المروجين أيضا نجد تنسيقيات ونقابات تحاول كل من جهتها إقناع الرأي العام بقوتها وتأثيرها.
والحقيقة المؤلمة لكل مروجي هذه الإشاعات، الذين يدعون التأثير هي أن النظام الأساسي الجديد لم يتم سحبه، بل تم إرساله لوزارة المالية بداية هذا الأسبوع لتشرع في تنفيذ ما يترتب عنه من تعويضات مالية ابتداء من الشهر الجاري، ومن يقول عكس هذا لإيهام متتبعيه من أجل "اللايكات" أو أتباعه من أجل "بطائق الانخراط" فهو حتما إما جاهل بمنطق تشريع القوانين، حيث قاعدة تراتبية القوانين أو ما يسمى عند المختصين "ب توازي الشكليات" أو مغرض بريد ركوب الموجة.
فمن وجهة نظر فقهاء القانون، فالقوانين تحتاج لاستقرار، لذلك لا يتم إلغاؤها إلا بمرسوم وهذا يحتاج لفترة يثبت فيها القانون المعني قصورا ومحدودية، أو يتم إلغاؤه بنص قانوني أكبر أي بظهير شريف لذلك، ففي حالة ما إذا تم سحب هذا "النظام الأساسي"، بعد أسابيع قليلة من نشره في الجريدة الرسمية فهذا يعني حرفيا القتل السياسي لوزير بدليل أن فكرة "التجويد" التي تحدث عنها بلاغ رئيس الحكومة تعني إقرارًا بأن القانون ليس سيئا على إطلاقيته، وبالتالي فالحل هو تجويده عبر إصدار مرسوم تعديلي بينما النظام سيبقى والمرسوم التعديلي المقبل، الذي بدأت وزارتا التعليم والميزانية التداول فيه سيتضمن، وهذا هو المهم، زيادة عامة سيتم اعتمادها في السنة المالية لسنة 2024. لذلك فالانظار في وزارة التعليم تتجه نحو فوزي لقجع، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، لأنه هو من سيحدد الغلاف المالي الذي سيتم تخصيصه لهذه التسوية التي اعتقد أن على الأساتذة أن يستغلوها لإنهاء الإضراب والعودة إلى الاقسام لإنقاذ الموسم الدراسي مع الاستمرار في خوض معاركهم لتحقيق مطالبهم دون الإضرار بحقوق التلاميذ في الدراسة.
فما لا يعلمه البعض، هو أن الوزير غير مقتنع نهائيا بفكرة الزيادة الشاملة للأساتذة، وهذه حقيقة يقولها لدائرته الخاصة في ديوانه ويقولها لكبار المسؤولين الإداريين في الوزارة، لأنه بالنسبة له، إما أن نصلح التعليم، وبالتالي ينبغي أن تقبل فكرة اتخاذ قرارات مؤلمة أو نحول القطاع إلى "وزارة للأعمال الاجتماعية" بتعبيره. حيث المقاربة الإحسانية والتعاطف.
ولمن لا يعرف، فهذا هو منطق المقاولات لذلك يمكن القول بأن حديثنا في مناسبات سابقة، عن كون الوزير وديوانه يدبرون القطاع بمنطق القطاع الخاص لم يكن مجانبا للصواب أبدا، لأنه مثلما تسمع في شركات كبرى تسرح آلاف الموظفين دفعة واحدة، فإن الوزير مقتنع بأن التحفيز المالي لا ينبغي أن يكون عاما للجميع، بل ينبغي أن يكون مشروطا بأداء معين هو الانخراط في مشروع "المدرسة الرائدة"، وهو مشروع تم الشروع فيه في السلك الابتدائي فقط في حدود 628 مؤسسة. والسؤال أين المؤسسات الإعدادية والثانوية؟ هل سيتوجب على أساتذة الثانوي والإعدادي الانتظار ثلاث سنوات أخرى ليحصلوا على تحفيز مشروط في حدود 900 درهم يمكن سحبه في أي سنة، في حالة لم يتم تسجيل مردودية تربوية. ثم والأخطر ما ذنب ملايين الأطفال الذين يدرسون في مدارس لا يشملها مشروع الريادة والذين يدرسون في قاعات مهترئة ومكتظة تتجاوز في حالات الخمسين تلميذا؟
المؤكد أن إصرار الوزير على عدم تفعيل ما يعرف بالعدالة الأجرية في القطاع، ووضع التحفيز المالي مشروطا بمشروعه الشخصي، سيعرضه لانتكاسة وظيفية حقيقية. ففي حالة ما تم تعديل مرسوم النظام الأساسي وتم إقرار زيادة تشمل جميع الأساتذة، فإن استقالته أو إقالته تصبح مسألة وقت فقط خصوصا مع تزايد انشغال الأجهزة الأمنية بما يحدث في شوارع المدن نتيجة الاحتجاجات المتنامية للأساتذة احتجاجات تكتسب جراة يوما بعد يوم، وصلت حد تحويل التظاهرات من مجرد وقفات أمام مقرات المديريات الجهوية والإقليمية إلى مسيرات تجوب شوارع المدن مثلما لاحظنا في مراكش والقنيطرة وطنجة وغيرها.
المأزق الذي يوجد فيه وزير القطاع يتمثل في أن مصيره السياسي سيتحدد في غضون الأسابيع القليلة القادمة، فمن جهة، هو يعرف بأنه فقد مصداقيته أمام مرؤوسيه، وهم الذين عقدوا عشرات اللقاءات يدافعون فيها عن هذا النظام، ليفاجؤوا بأن اجتهاداتهم في التواصل ذهبت سدى خصوصا بعدما توصلوا باعتراف رئيس الحكومة بحاجة النظام الأساسي للتجويد ومن جهة ثانية، فرئيس الحكومة أقدم على خطوة لا تلقى قبولا من طرف الوزير، وهذا يعني أن رئيسهم ضعيف سياسيا.
وهذا الضعف ليس مفاجئا، بدليل السخرية التي لقيها الوزير نفسه في أول اجتماعات المجلس الحكومي عندما عرض ما أسماه "خارطة الطريق"، مباشرة بعد استوزاره من طرف بعض زملائه في الحكومة والذين تساءلوا عن الحاجة لوضع خطة إصلاحية جديدة بدل الاستمرارفي تنزيل الخطة التي بدأ فيها سلفه سعيد أمزازي لا تعرف حتى الآن لم يصر الوزير على اعتبار الأمر مسالة شخصية بدليل أنه أياما بعد اعتراف رئيس الحكومة بالحاجة لتعديل النظام الأساسي، أمر الكاتب العام للوزارة بإرسال رسالة لوزارة المالية يطلب منها تطبيق مسطرة الاقتطاعات في رواتب المضربين، وإذا أخذنا بعين الاعتبار البرنامج الذي تم الإعلان عنه للإضرابات، فنحن نتحدث عن اقتطاعات تصل لنصف رواتب الأساتذة.
والسؤال الذي طرحناه مرارا ونعيد طرحه، هل هذا يخدم المدرسة المغربية هل الإخضاع يمكن أن يكون سبيلا للإصلاح وكيف يمكن الجمع بين التحفيز والاقتطاع بل هل العمليات الجراحية المؤلمة التي يتحدث عنها الوزير لإنجاح الإصلاح هي ضرب الأساتذة في أرزاقهم وأرزاق أبنائهم كيف يستقيم أن تدعو الحكومة إلى تعديل نص قانوني والوزارة تباشر الاقتطاعات في أجور المحتجين على نفس القانون؟