recent
آخر المواضيع

الأستاذ

 

في السياق الطبيعي للأشياء، يحيل المصطلح على العارف بالشيء والضابط له، وهو بعد إلمامه به أصبح أهلا لتدريسه ونقله لمن هو غيره. وهو بذلك يحضى بتقدير واحترام كبيرين، وله مكانة اعتبارية في المجتمع وفي المخيال العام للناس لفضله عليهم ولقيمته المضافة داخل المجتمع باعتباره لبنة من اللبنات الأساس لأي بناء كيفما كان.

إلا أن المصطلح سرعان ما يأخذ بعدا آخر وتصورا مغايرا تماما للصفات المذكورة، فهو رمز للتهاون والكسل، رمز للإضراب والابتزاز، إلى آخره من الصطلحات والمفاهيم الحاطة من قدره وقيمته في المجتمعات المتخلفة.

لا شك أن الوضع الطبيعي الذي يجب أن يوجد فيه الأستاذ هو القسم وفي ردهات المؤسسات التعليمية باختلاف أسلاكها ودرجاتها، أو بين دفات الكتب يطور من مهاراته العلمية والتقنية، إلا أن الأستاذ في السنوات الأخيرة أصبح يجوب الشوارع ليل نهار، تارة محتجا وتارة أخرى باحثا عن مصادر رزق دون التي من المفروض أن يأخذه منها، وليس ذلك حبا في الاغتناء أو الترف، بل حتى يستطيع كغيره من بني عشيرته أن يسدد فواتيره دون تأخير، وأن يسد حاجياته الأساسية. ولعل الوضع آخذ في السوء من عام لعام، ومن حكومة لحكومة، هذه الحكومات التي أصبحت لديها قناعة مترسخة بأن التعليم قطاع غير منتج، أو بعبارة أخرى أن قطاع التعليم مكلف، فكثلة الأجور فيه مرتفعة، على العموم تبقى الأعذار متعددة والموت واحد، هو موت المعلم ومعه المدرسة.

قبل ولوجي لهذا القطاع كنت كغيري من الناس أنظر إليه بكثير من الاشمئزاز بفعل تلك النظرة التي رسخت في لاوعينا وفي وعينا كذلك، تلك النظرة الدونية الحاطة من قدر الأستاذ وهمته، لاقتناعي آنذاك بأن الأستاذ لا يقوم بعمله كما يجب، أو لكثرة إضرابه عن العمل. لكن وبعد أن ولجت هذه المهنة اكتشفت وجها آخر، وجدت أساتذة هدفهم الأسمى هو أن يروا تلامذتهم أفضل منهم، ويقومون في سبيل ذلك بعملهم على أكمل وجه ويزيدون، ينوعون من طرق تدريسهم، يبدعون، بالرغم من المعيقات التي تعترضهم من اكتضاض في الأقسام وسوء التوجيه وتخلي الأسر عن دورها في التربية وغياب المعدات إلى آخره من المعيقات، وجدتهم أكثر من يعود إلى بيته وهو كله أنين وألم، من جهة لأن العمل مجهد ومرهق، مضن ومستنزف، ومن جهة أخرى لأنه يحمل معه نظرات تلامذته الملئى بالمعاناة، من قلة نوم وقلة أكل وضعف ذات البين، ولباس لا يقي من برد ولا من حر، حتى أن الأستاذ ينسى كل متاعبه وهمومه بمجرد أن يلج القسم الذي ينسيه كل شيء دون أن ينسيه شيئا واحدا: كيف أنقذ هذا وكيف أنقذ هذه وكيف أنقذ تلك؟ لتجده بذلك يحمل وزرا تنصل منه جميع المسؤولين باختلاف رتبهم ودرجاتهم.

اليوم الأستاذ تعب، وكان النظام الأساسي القشة التي قسمت ظهر البعير، هذا النظام الذي رصدت الحكومة لإعداده ملايير الدراهم، دون أن يكون للأستاذ منها درهم واحد، هذا النظام الذي جاء ليكرس الهشاشة ويزيد من متاعب الأستاذ. الأستاذ اليوم لا ينتفض فقط لأنه لم ينل حصيصا مما يناله من هم دونه علما وقيمة، لا.

الأستاذ يقول لا للمس بما بقي من كرامة هذا المواطن الذي من دونه لن تقوم للوطن قائمة. يقول كفى حرصا منه على استمرار المدرسة العمومية في أداء مهمتها الطبيعية: ضمان تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب المغربي باختلاف طبقاتهم الاجتماعية والسوسيو-اقتصادية، هذه المدرسة التي تعد لوحدها ضامنا لتسلق السلم الاجتماعي. فأبناء المغاربة ليسوا أغنياء ليلج أبناؤهم المدارس الخصوصية، وليسوا بلداء ليضعوا فلذات كبدهم بين يدي لوبي التعليم الخصوصي الذي يضع الربح المادي هدفا رئيسا له.

الأستاذ اليوم يطلب حقه لأنه يعرف أن ذلك سيدفعه لبذل جهد مضاعف لإصلاح ما أفسدته الأسرة والمجتمع والهاتف والتلفاز معا. يطلب حقه ولا شيء غير حقه بغية أداء رسالته ومهامه على الوجه الأكمل. والحكومة وكل المتدخلين في المجال آن لهم الوقت لينصتوا ويستجيبوا. ويستجيبوا فقط لا ليتحاوروا. فالحوار من أجل الحوار ضيع فيه الأستاذ وضيعت طاقته وضيع مجهوده وضاعت أفضل سنين عمره في الانتظار. انتظار لم يعد يملك له صبرا.


google-playkhamsatmostaqltradent