“الأدب أفقا للتفكير.. في جدوى الكتابة اليوم؟” كان الموضوع المحوري الذي التأم لتفكيكه أربعة أكاديميين مغاربة: الكاتب إدريس كسيكس، والكاتب عبد القادر الشاوي، والكاتب عبد الرحيم العطري، والناقد والكاتب شرف الدين ماجدولين؛ وذلك اليوم ضمن فعاليات انطلاق الدورة الـ29 من المعرض الدولي للنشر والكتاب (9 – 19 ماي) بالرباط.
ويبدو أنه إزاء “الفورة الرقمية” التي صارت تشغل بال المهنيين في مجال الكتابة، ومجالات كثيرة مرتبطة بها، يحمل “ملتقى الكتاب” الشّعلة لتقديم إضاءات “شهيّة” بخصوص مدى صلابة فعل الكتابة اليوم أمام “سيولة تقنية مرعبة”، حوّلت الورق إلى “مسألة ثانوية”؛ حتى لو كان المتكلمون ضمن الندوة لا يطمئنون جميعا إلى “النهاية الحتمية لفعل الكتابة ‘التقليدية’ أمام تسلّط الآلة”.
“عالم متغير”
الكاتب والأكاديمي إدريس كسيكس كان أول من تناول الكلمة ليعلن للحاضرين صراحة أن “التعارض القائم حاليا بين الكتاب الورقي والكتاب على المنصات أو الرقمي غير ذي معنى”، معللا ذلك بكون “الكتاب المحمل والرقمي لم يستطع أن يكون له أي مكان فعلي في التلقي، وحتى في الوسائل الاقتصادية التي تم تطويرها لذلك، مثل ‘كندل’، لأن العالم الافتراضي هو عالم سائل، والكتاب يفرض علينا التوقف”.
وبالنسبة لكسيكس فإن الكتاب “يفرض علينا أن نأخذ مسافة مع السيولة الموجودة في العالم من حولنا؛ لذلك لا يمكن أن نتعامل مع الكتاب الورقي كشيء يمكن تجاوزه من خلال الكتاب الرقمي، بما أن الأخير لا يعدو أن يكون حلما رأسماليا لم يتحقق ولن يتحقق”، وعاد في مداخلته لاحقا ليفسر هذا القول، موردا: “حين نسأل اليوم عن جدوى الكتابة الأدبية فالمسألة الرأسمالية والنيوليبرالية تضعنا أمام شخص مهووس بوسائل تسويق النص وجعله سلعة”.
وفي تطرقه للسؤال المحوري للنشاط الأدبي المنظم ضمن ملتقى الكتاب أوضح الأكاديمي ذاتها أننا نطرح السؤال “لأن هناك تكنولوجيا وسائل التواصل الاصطناعي اليوم، إذ يمكن لـ’شات جي بي تي’ أن يكتب رواية عند الطلب؛ ولأن هناك ما نعتبره تدنيا للقراءة لدى الشباب، ووفرة الكتب وقلة القراءة”، مضيفا: “إننا كذلك أمام تساؤل فارق: هل الكاتب فوق العموم وله القدرة على التعالي عن التفاهات والإتيان بشيء خارق اسمه نص أدبي وهو الآن يجد نفسه في مرحلة لا يهتم فيها بالنص وإنما بوسائل تسويقه؟”.
وخلص المتحدث ذاته إلى أن “الكتابة ربما لا جدوى منها بالمعنى الذي نفهمه اقتصاديا أو سياسيا”، وزاد: “لماذا؟ لأن الكتابة نتعامل معها كأفراد منعزلين… والقراء هم أفراد منعزلون، وهي تخلق أول ما تخلق صدى، إحساسا، وعيا، أو فقط حالة دهشة لدى القارئ. وأصل الحكاية أننا بحاجة إلى سياسيين وفاعلين يخلقون ظروف هذه الدهشة باستمرار”، خاتما برفض “ترك اليد الطولى للمسوقين المهووسين بالجدوى الاقتصادية”.
“سؤال ذو مشروعية”
الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي لم يخف تقاطعه “سرّا” مع كسيكس في عدة نقاط قدمها في تدخله، مؤكدا من جهته أن “سؤال جدوى الكتابة يعدّ سؤالا قلقا وله أبعاد نفسية وذاتية في العموم، بالإضافة إلى الأبعاد الفكرية المرتبطة بالكتابة بشكل عام؛ ولكن السؤال والقلق يعبر عن نوع من الحيرة التي يستشعرها كاتب ما أو كتاب بشكل عام إزاء الكتابة، وربما كذلك ضمنيا إزاء القارئ”.
وتابع الشاوي، صانع “كان وأخواتها”، بأن “القارئ يمكن أن يسأل كاتبا ما حول جدوى ما يكتبه الآن في أي مجال من المجالات: الإبداع أو الدراسات الفكرية والأدبية وغيرها”، منبها إلى كون الكاتب، “بما أنه يتصل من خلال كتاباته بالقارئ، وبالمجال الثقافي العام، سيكون ملزماً بأن يدلي بجواب”، وأوضح: “هذا الجواب قد يكون في علاقة باختصاصه، وقد يكون أيضا في علاقة بمزاجه، وقد يكون أيضا في علاقة بانتمائه”.
وأكد المتحدث أن “الكتابة لا يمكن أن تتعلق حصرا بكاتبها، وإلا ما مبرر وجود الكتاب نفسه كوسيط؟ وما مبرر وجود الكاتب نفسه في مجتمع ما؟ وحتى ما مبرر وجود مجال ثقافي معين تتوجه إليه تلك الكتابة؟”، مستحضرا في هذا السياق أول سؤال طرح عليه قبل الانتماء السياسي: “لمن تكتب؟”، وتابع: “كان هذا السؤال شائعا في تلك المرحلة، وهو سؤال مشروع مرتبط بتحديات كثيرة”.
وعاد الروائي في نهاية مداخلته إلى “تطورات التكنولوجيا والرقمية التي تحاصر وجودنا”، مرجحا أن يكون المستقبل “أعنف وأقوى من حيث التطور… خصوصا ‘شات جي بي تي’ وغيره”، وزاد: “صحيح أنه أصبح الآن بمقدور أي كان في منصات وصفحات إلكترونية أن يكتب ما يشاء (…) الأمر يمكن أن يكون باعثا على قلق متجدد يرتبط بتطورات التكنولوجيا والرقمية وأثر هذه التطورات على الكتابة”.
“مابعديات حاضرة”
الجامعي والأكاديمي عبد الرحيم العطري اختار أن يحدد مداخلته ضمن مفهوم “الكتابة والبحث العلمي في سياق ما بعد الفرص والمخاطر”، موردا أننا اليوم “في زمن يمكن أن نقول إنه ينتصر لفرضية المابعد، زمن نعترف به بأن الكل رقمي”، وأفاد: “لكي نفهم جدوى أو لا جدوى الكتابة في هذا الزمن علينا أن نعود إلى السياق المتسم بالمخاطرة واللايقين، حيث ينطرح هذا السؤال: لماذا نكتب؟ وهل ثمة غاية مما نكتب؟”.
ودفع العطري وهو يتكلم ضمن الندوة بكون السؤال قديما حديثا؛ “ربما راود كل الذين انتصروا للكتابة في يوم ما، في لحظة من اللحظات”، وأوضح: “حين نطرح هذا السؤال فنحن لا ننتصر لمقاربة اقتصادوية صرفة، فالجدوى هنا هي جدوى رمزية بالأساس؛ هي جدوى مرتبطة بالمعنى وإنتاجه. إننا اليوم نعيش زمن الهيمنة الرقمية، وزمن العبودية الرقمية والإدمان الرقمي. والكاتب أصبح مزاحما”.
وتابع المتحدث شارحا: “السلطة الرمزية والمكانة الاعتبارية التي كانت للكاتب أصبحت اليوم مهددة. اليوم الكل يمكن أن يكون كاتبا، بل يمكن أن نقول إن النص أو فعل الكتابة أصبح فعل مستباحا”، مسجلا أن “الكل يريد أن يحصد ‘لايكات’، أن يبني رأسمالا من ‘لايكات’، وهذا ما أسميه العينية الرقمية، تماما كما هو الأمر لعينيات أخرى اجتماعية وثقافية؛ فالكاتب الرقمي اليوم أصبح مزاحما للكاتب الأصلي (…)، وهذا يكشف أننا ننتمي إلى سياق المابعديات: ما بعد الإنسان”.
وفي الصدد ذاته لفت الكاتب المغربي إلى كونه لا يحبذ “الانتصار لخطاب النهايات أو خطاب البكائيات”، وأضاف: “لن أقول إن الكاتب أو المؤلف سيموت، فالمؤلف عادة يموت بعد خروج نصه، وربما يولد ناقد أو قارئ آخر وفقا لما جاء في كل الكتابات المرتبطة بالنقد وباللسانيات (…) الكتابة أثر وحياة موقف من الحياة”.
“رهان متواصل”
شرف الدين ماجدولين، أستاذ جامعي متخصص في الجماليات والسرديات اللفظية والبصرية والدراسات المقارنة، حكى للحاضرين في مستهل مداخلته أنه طرح سؤال الندوة: “جدوى الكتابة اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي؟” على منصة “المؤلف” The author، التي “هي ككل منصات الذكاء الصناعي ليست لها درجة واحدة، بل هي مقرونة بطبيعة الاشتراك المالي لكي تعطيك الإجابات”، وزاد: “ربما الإجابة المجانية ستعطيك مجرد عناوين، لكن هذه العناوين ليست سهلة”.
وقال ماجدولين ضمن مداخلته: “إجابة منصة المؤلف تحدثت في النقطة الأولى عن كون الكتابة تعبيرا عن الأفكار، ووسيلة للتواصل؛ وضمن هذه الفقرة أفادت بأن الكتابة في وسائط التواصل الاجتماعي لها أهمية كبرى. نحن نعيش ثورة في التواصل بين أصقاع العالم، بشكل لم يكن متاحا سابقا، فالتواصل الآن له دلالة أخرى لأننا نتواصل جغرافيا”. وأضاف: “في إجابة أخرى اعتبرت المنصة أن الكتابة وسيلة للتوثيق والأرشفة، أي سؤال الذاكرة”.
وتحدث ماجدولين بعد هذه الإجابات عن “استحالة خروج الذكاء الاصطناعي عن الجدوى الأساسية للمؤلف، أي الكاتب الحقيقي”، وأوضح خاتما: “نصوص الذكاء الاصطناعي في نهاية الأمر هي مجموعة نصوص كتبت ودرب عليها الذكاء الاصطناعي بتقنيات لكي تكون رصيده في ذاكرته من خلالها يقدم لنا تلك الأجوبة”.