ارتباطا بالتزامات اتفاق 30 أبريل 2022 .. سارعت الحكومة إلى الادعاء بتنفيذ الاتفاق الذي توصلت إليه رفقة النقابات الأكثر تمثيلية والاتحاد العام لمقاولات المغرب، قبل فاتح ماي، كي يأخذ الموضوع صبغة الجدية في إصلاح الاختلالات التي يعرفها سلم الأجور في القطاعين العام والخاص بالخصوص، حيث تم إقرار زيادة في أجور موظفي الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية الذين لم يستفيدوا بعد من مراجعة أجورهم، بمبلغ شهري قدره 1000 درهم يصرف على شطرين (فاتح يوليوز 2024 ثم فاتح يوليوز 2025)، وبالنسبة للقطاع الخاص، تم الاتفاق على زيادة 10 في المائة مقسمة بدورها على فترتين متباعدتين (5 في المائة ابتداء من فاتح يناير 2025 و5 في المائة ابتداء من فاتح يناير 2026)، كما اتخذت بعض الإجراءات من أجل إصلاح ملف الضريبة على الدخل، ثم إصلاح صناديق التقاعد..
هكذا كانت باختصار مخرجات الحوار الاجتماعي، الذي يبدو أنه اعتمد بشكل واضح تهريب الإصلاحات إلى الأمام، ما يؤكد تملص الحكومة من مسؤولياتها تجاه المواطنين باتفاق مع أو تحت ضغط الباطرونا وإصلاح الأوضاع الاجتماعية في ظل الارتفاع الصاروخي للأسعار التي تأبى النزول بفعل تحكم رجال الأعمال وأصحاب الشركات والمقاولات التي تمثل القطاع الخاص.
فماذا يعني زيادة في الأجور لسنتي 2025 و2026 ونحن لا زلنا في الشهر الخامس من سنة 2024 إن لم يكن القصد الهروب إلى الأمام وتأجيل حل المشاكل القطاعية؟ وهذا التساؤل يحيلنا إلى التساؤل عن دور النقابات، وخاصة الأكثر تمثيلية، والتي تعتبر عريقة بالنظر إلى تاريخ تأسيسها الذي يعود إلى فترة ما قبل الاستقلال بالنسبة لنقابة الاتحاد المغربي للشغل (تأسست بتاريخ 20 مارس 1955)، والاتحاد العام للشغالين بالمغرب (سنة 1960)، والاتحاد الوطني للشغل الذي تأسس سنة 1973، ثم الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1979، وغيرها من النقابات التي كان لها وزنها في وقت من الأوقات، إلا أنها تخلت عن أدوارها الدفاعية عن الطبقات الفقيرة وعن الشغيلة ؟
ففي ظل الأزمة الاقتصادية التي يمر منها المغرب، وفي ظل الأوضاع الاجتماعية التي باتت تعيشها شريحة واسعة من المجتمع المغربي، وفي ظل الارتفاعات المتوالية في أسعار كل المواد الأساسية والاستهلاكية.. جاءت حكومة رجال الأعمال لتكرس نفس الوضعية، بل وتزيد من تعقيدها رغم رفع شعارات الدولة الاجتماعية، وقبلها كان النموذج التنموي، وقبل ذلك اعتمدت الدولة على غرار العديد من دول العالم، وتماشيا مع مقررات منظمة العمل الدولية، استراتيجية العدالة الاجتماعية من أجل الحد من الفوارق الاجتماعية، والتي يتم من خلالها تحقيق المساواة بين جميع أفراد المجتمع من حيث فرص الشغل، وتوزيع الثروات، ومجموعة من الحقوق، كالتعليم والرعاية الصحية اللازمة، مما يمكن المواطنين من الاستفادة من نفس الحقوق والخدمات على قدم المساواة.
فالعدالة الاجتماعية تعني تحقيق العمل اللائق وتطبيق جدول أعمال العولمة العادلة التي تركز على الحقوق الأساسية، والحماية الاجتماعية، والحوار الاجتماعي البناء بين الحكومات وأصحاب العمل والعمال، والتي هي جميعها الحجر الأساس لوضع العدالة الاجتماعية في صلب عجلة التنمية، لأن العدالة الاجتماعية هي واحدة من النظم الاجتماعية التي من خلالها يتم تحقيق المساواة بين المواطنين، وذلك عن طريق تعزيز التضامن بين جميع أفراد المجتمع، وتوزيع الموارد والممتلكات كالأراضي والمباني بين الأفراد، ثم المساواة في توزيع فرص العمل بأجر يضمن لهم العيش الكريم، والحصول على نفس الفرص في التعليم كمجانية التعليم ونفس الخدمات كتوفير وتسهيل الولوج إلى خزانات الكتب والنقل المدرسي، ونفس خدمات الضمان الاجتماعي والخدمات الصحية.. وكلها أسس إن قامت قام المجتمع سليما وإن غابت فإننا نحيا في مجتمع ركائزه مختلة، وبالتالي نعيش وضعية كالتي نعيشها حاليا من خلال تكريس الفوارق، حيث اتسعت الهوة بين الأثرياء والأغنياء وباقي طبقات المجتمع، وتم سحق الطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة آخذة في الاضمحلال بفعل السياسات المتبعة خلال السنوات الأخيرة، والتي كرست إغناء الغني وتفقير الفقير، مما يطرح التساؤل: أين شعار الدولة الاجتماعية في ظل غياب العدالة الاجتماعية ؟
فبعد دخول العالم في عصر العولمة، طرحت بحدة مشكلة العدالة الاجتماعية ليس في المجتمع المغربي وحسب، وإنما في العالم أجمع، لذلك كان لا بد من إطلاق برامج كبرى تقف في وجه التحديات الاقتصادية العالمية التي من شأنها إضعاف الاقتصادات المحلية، ولكي لا تختل موازين القوى في السياسات الداخلية المتبعة اعتبارا لخصوصية سياسة كل بلد، والمغرب بدوره انخرط في هذا الاتجاه باعتماد النموذج التنموي بهدف التغلب على الأزمة وتعزيز العدالة الاجتماعية، إلا أن طريق تحقيق مضامين هذا النموذج غالبا ما تصطدم بعراقيل تحول دون تحقيق الأهداف المرسومة، وهذا من مساوئ حكومات رجال الأعمال، الذين بترأسهم للقطاعات الحيوية يتحكمون في القرارات والقوانين التي تخدم مصلحتهم فقط على حساب مصلحة الشعب، وهم بذلك يكرسون الفوارق، والدليل هو ما وصلت إليه قطاعات حيوية من تراجع ونكوص جعل المغرب يتبوأ مراتب متأخرة في مجموعة من التصنيفات، منها مثلا مؤشر التنمية البشرية 2023/2024، الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية، حيث جاء في الرتبة 120 عالميا، أما تصنيفات مؤشر التعليم والصحة فحدث ولا حرج.
ولطالما طالبت هيئات المجتمع المدني بتوزيع عادل للثروة من أجل الحد من الفوارق الاجتماعية التي أنتجت لنا العديد من الطبقات، وبالتالي، أصبح من الصعوبة بمكان تحديد مستويات عيش العديد من الفئات، مقابل ظهور فئة الأثرياء والأغنياء وما بينهما، في حين تم إنزال الطبقة الوسطى إلى مرتبة الفقيرة، والفقيرة إلى مستوى لا يمكن حتى تصنيفه مع وجود طبقات مسحوقة تعيش في الهوامش ولا تنال حظها من التنمية، ولذلك يتم بين الفينة والأخرى، من أجل إسكات الاحتجاجات، إخراج برامج تسمى قسرا تنموية، وأخرى من أجل دعم الطبقات الفقيرة، لكن فشلها الذريع في احتواء الأزمات جعلها مناقضة للواقع الذي يعيشه معظم المغاربة في ظل تدهور القدرة الشرائية لفئات عريضة، وعدم تمكين فقراء الوطن من سكن لائق، لأنه حتى السكن الذي يدعون أنه اقتصادي أو اجتماعي، تتم المزايدات فيه ولا يتم تفويته بأثمان في متناول الأجراء والعمال والمياومين وما دون ذلك، هذا دون الحديث عن الثروات الكبرى التي لا يستفيد منها المغاربة والتي تذهب إلى فئات بعينها رغم أن الملك محمد السادس نادى غير ما مرة في خطاباته بتحقيق نموذج تنموي يمكن المواطن من العيش بكرامة في بلده، حيث قال في خطاب افتتاح الدورة البرلمانية بتاريخ 13 أكتوبر 2017: ((المغاربة اليوم يريدون لأبنائهم تعليما جيدا لا يقتصر على الكتابة والقراءة فقط، وإنما يضمن لهم الانخراط في عالم المعرفة والتواصل، والولوج والاندماج في سوق الشغل، ويساهم في الارتقاء الفردي والجماعي بدل تخريج فئات عريضة من المعطلين، وهم يحتاجون أيضا إلى قضاء منصف وفعال، وإلى إدارة ناجعة تكون في خدمتهم وخدمة الصالح العام، وتحفز على الاستثمار، وتدفع بالتنمية بعيدا عن كل أشكال الزبونية والرشوة والفساد))، وأضاف الملك في نفس الخطاب: ((إذا كان المغرب قد حقق تقدما ملموسا يشهد به العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وفي هذا الصدد، ندعو الحكومة والبرلمان، ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية، كل في مجال اختصاصه، لإعادة النظر في نموذجنا التنموي لمواكبة التصورات التي تعرفها البلاد.. إننا نتطلع لبلورة رؤية مندمجة لهذا النموذج كفيلة بإعطائه نفسا جديدا وتجاوز العراقيل التي تعيق تطوره ومعالجة نقط الضعف والاختلالات التي أبانت عنها التجربة))، وسيتطرق الملك مرة أخرى إلى ضرورة تنفيذ إصلاحات واسعة واستكمال المشاريع الكبرى المتعثرة والتي تأخر إخراجها لحيز الوجود من أجل احتواء الأزمات التي تفجر الاحتجاجات في مختلف القطاعات، وقال بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للبرلمان لسنة 2021: ((إن النموذج التنموي يفتح آفاقا واسعة أمام عمل الحكومة والبرلمان بكل مكوناته، والحكومة الجديدة مسؤولة عن وضع الأولويات والمشاريع، خلال ولايتها، وتعبئة الوسائل الضرورية لتمويلها في إطار تنزيل هذا النموذج، ومطالبة أيضا باستكمال المشاريع الكبرى التي تم إطلاقها، وفي مقدمتها تعميم الحماية الاجتماعية، التي تحظى برعايتنا، وفي هذا الإطار، يبقى التحدي الرئيسي هو القيام بتأهيل حقيقي للمنظومة الصحية طبقا لأفضل المعايير، وفي تكامل بين القطاعين العام والخاص، وهو نفس المنطق الذي ينبغي تطبيقه في تنفيذ إصلاح المؤسسات والمقاولات العمومية، والإصلاح الضريبي، وتعزيزه في أسرع وقت، بميثاق جديد ومحفز للاستثمار.
وبموازاة ذلك، يجب الحرص على المزيد من التناسق والتكامل والانسجام بين السياسات العمومية ومتابعة تنفيذها، ولهذا الغرض، ندعو لإجراء إصلاح عميق للمندوبية السامية للتخطيط، لجعلها آلية للمساعدة على التنسيق الاستراتيجي لسياسات التنمية، ومواكبة تنفيذ النموذج التنموي، وذلك باعتماد معايير مضبوطة، ووسائل حديثة للتتبع والتقويم.
إن بداية هذه الولاية التشريعية تأتي في مرحلة واعدة بالنسبة لتقدم بلادنا، وأنتم، حكومة وبرلمانا، أغلبية ومعارضة، مسؤولون مع جميع المؤسسات والقوى الوطنية، على إنجاح هذه المرحلة من خلال التحلي بروح المبادرة والالتزام المسؤول، فكونوا رعاكم الله في مستوى هذه المسؤولية الوطنية الجسيمة، لأن تمثيل المواطنين، وتدبير الشأن العام، المحلي والجهوي والوطني، هو أمانة في أعناقنا جميعا)).
فمن خلال الخطابين نلاحظ أنهما جاءا في ظل حكومتين مختلفتين، الأولى ذات التوجه الإسلامي، والثانية حكومة رأسمالية ليبرالية تكنوقراطية، والأهم أنه لو كانت أي حكومة حققت إصلاحات في صالح الشعب المغربي.. لما كان الخطاب الملكي بهذه الصيغة، التي جاءت فيما يشبه العتاب أو الإنذار من أجل تحقيق وتنزيل المشاريع التنموية التي بتحقيقها يمكن تحقيق عدالة اجتماعية ولو نسبيا، وبالتالي الحد من الفوارق التي أججت الاحتجاجات في كل القطاعات الحيوية بالبلاد، لعل أبرزها الحراك الذي شل قطاع التعليم، وإضرابات قطاع الصحة، وقطاعات أخرى لا تقل أهمية، لكن دون التوصل أو إيجاد حلول جذرية لأي من هذه القطاعات، أما موضوع المحروقات، فقد أصبح ذاك الغول الذي أطبق قبضته على الاقتصاد المحلي برمته، وفي الوقت الذي تستفيد منه طبقة واحدة، تنزل تداعياته سيفا حادا على رقاب الشعب المغربي، لما لعلاقة الزيادات المستمرة في أسعار الغازوال من تأثير سلبي على قطاعات النقل وتسويق المواد الاستهلاكية والسلع الخدماتية وما إلى ذلك.. ليصل المغرب إلى عنق الزجاجة بفعل سوء تدبير الثروات وتركيزها في يلد القلة القليلة، وفي ظل عرقلة الزيادة في الأجور، وعدم تفعيل المحاسبة، ليتغول الفساد في مفاصل الدولة، مما أصبح وصمة عار على جبين المغرب رغم النجاحات التي حققتها الدبلوماسية المغربية على المستوى الخارجي..
وبالتالي، فإن غياب العدالة الاجتماعية وعدم توزيع الثروات بشكل عادل ولو نسبيا، يبقى دائما حجر عثرة أمام تحقيق الدولة الاجتماعية، وتبقى تحركات النقابات دون جدوى ليطرح التساؤل: ما فائدة الحوار الاجتماعي الذي تقوده النقابات بعدما تنحت عن الدفاع عن مصالح الفئات المحتاجة وعن الطبقات الفقيرة، وعن الأجراء، وبعدما تخلت عن الدور الذي تأسست من أجله ؟