انصياع لفتنة القصة القصيرة، وتأمّل في الحياة بعد مجاوزة الكهولة، وتجريبٌ يحضر في أحدث الأعمال الأدبية للروائي والناقد البارز محمد برادة، مجموعة قصصية صدرت عن دار نشر “الفنك” بعنوان: “هل أنا ابنك يا أبي؟”.
وفي مطلع قصصه الجديدة، يكتب برادة، أحد أبرز رواد الدرس النقدي بالجامعة المغربية في نص عنونه بـ”القصة القصيرة: تلك اللحظة المتميّزة”: “مع التجربة وطول التأمل، أجدني مقتنعا بأن القصة القصيرة تكتسبُ شرعيّتها ومبررات وجودها من اقتناصها لتلك اللحظة المتميّزة التي تعبُر فضاء الوجود تائهة، حائرة، ملتبسة، متطلعة إلى من يحتضنها ويستدرجُها ليصوغها في شكل ولغة يرتقيان إلى الإمساك بخصوصية (اللحظة المتميّزة) التي تضيء ما حولها، دون أن تسرف في الحشو والبلاغة والكلمات التي لا تعدو أن تكون صدى لما (قيل من قبل)”.
وفي قصة “صيف هندي” حوار حول الانتماء للعالم المستحيل والعالم المادي، والمعقول والمخيالات المتمردة والعدمية والعبث.
وفي “زيارة” مشاهد من عيش متقاعد فقد رفيقة عمره، فانقطع عن العالم الخارجي، حتى زارته قائلة: “لا، لا ألحاجْ المحبّة ماشي هكذا. اللي فْ القلب ما يعلمه إلا الله، لكن حرامْ تدفن راسك وانت حي (…) أنا وخّا ميتة ما زالا عايشة من خلالك وتنشوفْ بعويناتك وتنشربْ كاسي من كاسكْ (…) أنا ما زالا باغية نعيش ما دمت انتَ عايش”.
أما “فرحة المطر” ففيها من الحياة الجماعية الكثير، اختلاف في دافع الإمطار منبعه اختلاف في تصوّرات العالم وتفسيراته، وجفاف امتدّ إلى حياة الناس وبسماتهم، ونقاشات عن “الخاوي والعامر”؛ لأنه “إذا بقينا ساكتينْ غادي ننساوْ الهدْرا، ونوليوْ غير تنسمعو كلام الراديو.. وشمن كلامْ؟”، وكشفٌ لسبب الانقطاع الفعليّ للغيث.
وفي “ذاكرة من حجر”، شهادة فنان، أخطأ موعده مع الحضور، عن مصيدة الاختيارات: العزيمة التي ينبغي أن تستمرّ صلبة طيلة الحياة. كما تحضر شهادته على أسئلة كتابة التاريخ الشخصي، وموقع الإنسان الفرد في عالم متسارع يتجاوزه ونوعه.
وفي قصة “فتاةٌ لعوب”، يجد القارئ تجريب برادة؛ قصة منطلقها واحد، وعقدتها واحدة، لكن تتعدد نهاياتها الممكنة، فيقترح ما يقترحه من نهايات، مع ما يرافقها من مواقف وعبر.
هذا التجريب الأدبي امتدادٌ للحياة التي تتعدّد اختيارات الإنسان فيها، فلما يرسو على أحدها، قد يفترسه الشكّ والحسرة والأسى على ما كان يمكن أن يكون، مما يسرق لذّة الكائن والمتحقّق، وهو، إلى حدّ كبير، موضوع قصة “ليلة امبارَح”.
والكهولة لا تعني بالضرورة اليقين والرسوّ على شطّ الطمأنينة، بل قد تكون منطلق تساؤلات شاملة، لا يسلم منها كلّ ما عاشه الإنسان، وما لم يعشه، ما آمن به، وما لم يؤمن به، من رافقه، ومن غاب عنه، وهو موضوع أثير في أعمال أخيرة لمحمد برادة من بينها رواية “موت مختلف”؛ فليس الشك وحده ما يعذّب، بل اليقين أيضا! كيف؟ تجيب إحدى شخصياتِ قصة (“لديك أزمة إيمان” قال مفسّر الأحلام): “طبعا اليقين يعذّب لأن من يستظلّ به ينتابه الشكّ في يقينه”.
كما تحضر رؤيةٌ عن الكتابة موئلا لترتيب الفكر والروح: “تعوّدتُ، حين أحتار وأفقد البوصلة أمام أسئلة شائكة تتقاذفني إلى مهاوي الشكّ والحيرة، أن ألجأ إلى قلمي الأحمر وإلى حزمة الأوراق البيضاء، وأنغمر في رسومات لا رأس لها ولا ذنب، قبل أن أكتب كلمات تسعفني على وضع حدّ للغليان الداخلي، وتجعلني أستكين إلى تصوّر يبدّد الشكوك”.
أما القصة التي تحمل عنوانَها المجموعة “هل أنا ابنُك يا أبي؟”، فتحاصر فيها فكرة الأب المفقود شيخا جاوز السبعين؛ فكرة لم تنغصّ أزيد من نصف قرن من “جرأة خوض غمار العيش عاري الصدر”، لتتسرّبَ قلقا وأسئلة عن الجذور، والهوية، ولُغزيّة العالم، والما بعد.
في هذه القصةِ حكايةُ جيل حمل لواء القطيعة بعد الاستقلال: “عند بلوغي سنّ المراهقة، واستغراقي في قراءة الأشعار والقصص والروايات، وجدتُني في عالم مواز جرفني نحو فوضى المشاعر والأجواء المضفورة بالأحلام والتشهّيات والأسئلة المحفزة على التحدي. لم يعد الهدف لديّ ينحصر في الحماس لتحرير الوطن، بل أصبح يشمل أيضا رغبات الذات الحميمة وطموحها إلى ارتياد مرحلة تنبذ التقاليد العتيقة وتكسّر وصاية الأجنبي”.
لكن جرأة العيش بطريقة أخرى، لا ينفي ما في غياب الأب، بكل ما في هذه الكلمة من حمولة، من مضاعفة للهشاشة، والإنسانُ يواجه “عالما بات يتغير بسرعة مفرطة تجعله، بقدر ما يحمل من إنجازات، ينطوي على خسائر وكوارث”، وهو غياب لم يُستدعَ في هذه المرحلة من العمر حنينا أو أسى على يُتم طال، بل استُحضر “رمزا وقيمة”، ومحاولة للجواب عن إلحاح سؤال الهوية، الانتماء، ومعقوليّته.
هذا الجوع لأبٍ مستدعى من ابن يكبره عقودا، بعد عمر من الرحيل، قيّده برادة في القصة، بأسئلة مفتوحة فيها جوابٌ: “هل أسمّيه خوفا من اقتراب نهاية عمري، ومغادرتي الدنيا دون أن أقول كل ما اختَزنته الذاكرة والأحشاء من آمال وأحلام لم أحقق منها إلا النزر اليسير؟ أم أن الشوق المفاجئ إليك يا أبي يعود إلى ما قاله أحد الحكماء، حين سئل عن وظيفة ‘الأب الميت’ بالنسبة لذريته فأجاب قائلا: ‘يصلح الأب الميّت لأن نعلّق عليه أخطاء العالم؛ وما عدا ذلك لا أجد شيئا يصلح له الآباء الميتون’؟”.