أرسل لي زميل لي في مهنة الطب مقالة ينقل فيها أن طبيبا عربيا وصل إلى الترياق الأعظم لكل أنواع السرطانات. وأن الرجل تبنته أمريكا، وبالطبع فقد وضع لي الدكتور رقم تلفونه للاتصال به وأن رئيس وزراء اليونان تبناه شخصيا للفتح العظيم في علاج أمراض تنفق عليها مليارات اليورو والدولار وتعمل عليها عشرات الآلاف من المخابر حول العالم. إلا أن هذا الطبيب من عين شمس في القاهرة وبجنب الأهرام وباستحضار روح خوفو ومنقرع وصل إلى الفتح العظيم..
والدجل قائم منذ أيام كهنة فرعون الذين القوا عضيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم.. والعجيب ليس الخبر ولكن نقله على أيدي الأطباء ؟ وهذا يعني سهولة اغتيال العقل الإنساني ولو كان طبيبا درس العلم، ولكن يمكن أن يقع بسهولة في شراك الخرافة والدجل.
والسبب ثقافي أكثر منه علمي، فقد يدرس الطبيب الغاني والفرنسي نفس المعلومات، ولكن الأول يرقص بالحربة، والثاني يحكم المنهج العلمي في حياته، وكلاهما طبيب.
وخلاصة الموضوع فإن الدجل قائم في العلم والطب بل لقد اجتمعت يوما برجل مختص بالدجل العلمي ومهمته مراقبة المنشورات العلمية والكشف عنها. والكذب وارد في كل حقل معرفي؛ ففي الفن أظهر فلم (Incognito) كيف تم تزوير لوحة (رامبرانت) فبيعت في المزاد العلني بثلاثين مليون جنيه للمترفين البلهاء.
وعرفنا في الفيزياء أن (جان هيندريك شون) زور عمله في الفيزياء فاقة الدقة (Nanophysics)، وتقدم ـ وهو لم يتجاوز 31 سنة ـ بأكثر من مائة ورقة عمل، نشرت منها 17 بحثا في مجلات علمية محكمة مثل (الطبيعة) و(العلوم)، وتبين لاحقا أنها كانت كذبا في كذب، تم فيها الفبركة والتزوير والتلاعب بالنتائج.
وكذلك ما شاع عن (ويليام سامرلين William Summerlin) أنه سيطر على ظاهرة رفض الجسم للأشياء الغريبة، في زرع جلد من فأر إلى فأر، وكانت تجربته في نقل جلد فأر أسود إلى ظهر فأر أبيض، ثم ظهر أن الرجل بلغت به الوقاحة والاستهتار بعقول الناس أن عمد إلى قلم فحم وقار؛ فطلى بها ظهر الفأر الأبيض الذي لا يملك الرفض.
وقصة جماعة (الرائيين) من كندا عن الاستنساخ الجسدي لأول إنسان لم تنطلي خدعتها على العالم، فدحضت بسرعة. ومن كوريا عرفنا أن (وو سوك) كان يبتز مساعدته فأخذ من مبايضها 1600 بيضة لتجارب لم تسمن ولم تغني من جوع في زعمه عن الوصول لاستنساخ الخلايا الجذعية حتى عرف بأنه سيد المخادعين.
يقول (ديكمان) الخبير في الكذب العلمي: إن الثقة أساسية في العلم مثل العملة، فنحن نعرف أن هناك قدر ضئيل من أوراق مزورة، ولكن إذا كثرت انهارت الثقة في كل العملة، وكذلك الثقة في العلم.
والمال والمصالح تؤدي دورا قذرا في اللعبة، كما حصل في شركات التدخين، أو تلك التي تنتج البيرة، حين تم إخراس العالم الذي قال عنها أنها ضارة. وهنا فإن على العلم أن ينتظر قانون التاريخ، الذي قد يتأخر أحيانا حتى ينضج، فيزول الغثاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض.
والتزوير في الأبحاث البيولوجية والإحصائية، أشد منها في العلوم الإنسانية خلاف المتوقع، حيث يسقط علم أرسطو ومنطقه الصوري في الفخ. وفي العلم لا يوجد سحر بل وضوح ومعادلات صارمة، وهو المبدأ الذي رواه (ديورانت) في كتابه (قصة الفلسفة) عن (فرانسيس بيكون)، وأشار له (كلود برنارد) في كتابه (الطب التجريبي)، أن العلم لم يتقدم بالأسرار بل بـ (العلنية) ونقاش الآراء لتنمو الخبرات، فلا يوجد في العلم أسرار، بل صدق ومثابرة وإخلاص إلى حد التبتل.
وحسب (ديكمان) فلا نجاة من هذا المرض وتحرير العلم من الضحك عليه إلا بالمراقبة الصبورة الدءوبة المتكررة المعادة، وهي تلك التي أشار لها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن أمراض النقل في الأخبار، فقال أن الأخبار إذا نقلت ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والاجتماع البشري ولم يقارن الغائب بالحاضر والذاهب بالآتي فلا يأمن فيها المرء من العثور و مزلة القدم والحيد عن جادة الصدق.
وابن خلدون بهذا المنهج الصارم، يلمس الجدار الصاعق في نقل الأخبار عموما، وطرق التأكد منها حتى لا تغتال العقول، التي تمت دوما على شكل منظم بيد الكهنة، في الوقت الذي تم اغتيال الحريات على يد الطاغوت، ثم تعانق الطاغوت مع الجبت في زواج مشئوم أعاق التقدم الإنساني. وفي هذا يقول (الوردي) أن العقل الإنساني آخر ما يبحث عنه هو العدل والحق والحقيقة، بل هو عضو للبقاء مثل درع السلحفاة وناب الأفعى وقرن الثور وساق النعامة. وباختصار فإن العلم له أخلاقية، فمن طلب العلم لغير الله أبى أن يأتي إليه.
ويروى عن الإمام (أبي يوسف) أن (أسد بن الفرات) التونسي جاء يتعلم على يديه في بغداد، فكان إذا نعس نضح وجهه بالماء ثم قال له: إن العلم لا يعطيك بعضه، إلا بعد أن تعطيه كلك، وأنت من هذا البعض على غرر.. ومن أشهر قصص الكذب والتزوير في العلم ما حصل لـ (روزاليند فرانكلين) التي طورت تقنية الكشف عن الكود الوراثي، ليسرق جهدها وهي على قيد الحياة المشرف على عملها (موريس ولكينز) ليقدمه على طبق من ذهب لكل من (جيمس واتسون) و(فرانسيس كريك) ليحصدا جائزة نوبل، وتموت هي بسرطان الثدي عن عمر 38 عاماً، ربما من الأشعة السينية التي طبقتها للكشف العظيم؟ كما أن (اديسون) المشهور سرق جهد العالم الصربي (تيسلا) الذي اكتشف التيار المتناوب، ولم تكن معروفة سوى الكهرباء الساكنة. والعالم يعرف أديسون ويشيد به، ولعل الندرة من سمع بتسلا المسكين.
وفي تاريخ التزوير والكذب العلمي جعبة مليئة بالقصص المثيرة، أشهرها ما فعله (تروفيم ليسنكو Trofim Lyssenko) حينما جنده ستالين لتدجين العلم لحساب الإيديولوجية، فتم عزل عالم الإحياء الشهير (أفيلوف) من أجل إرضاء غرور الرفاق في صحة العقيدة الشيوعية، التي تقول بأن الإنسان تغيره ظروف الإنتاج المادي، فتبين أن الطبيعة الإنسانية ثابتة في المادة الوراثية، مما تشكل ضربة قاضية للنظرية الماركسية، وهو موضوع تكلم عنه باستفاضة (نديم البيطار) في كتابه (الإيديولوجية الانقلابية).
أو تلك التي اشتهرت في الأربعينات من القرن العشرين عن كذبة (بيلت داون) عن كشف الحلقة المفقودة (Missing Link) في نظرية دارون، فتم تركيب الفك السفلي لقرد من نوع أورانج أوتان على جمجمة إنسان، ليزعم صاحبها أنه وصل إلى الحلقة التي تربط بين القرود والبشر، في حماس أعمى لتأكيد نظرية دارون، التي حمي الوطيس حولها آنذاك، واشتهرت في الصراع الدائر بين توماس هكسلي Thomas Huxley)) والمتكلم من الكنيسة الأنجليكانية (صامويل ويل بيفورس Samuel Wilberforce)، وبقيت الكذبة سارية المفعول أربعين سنة قبل إعلان زيفها.
أو زعم الوصول إلى الطاقة الهيدروجينية بالطريقة الباردة، على يد مجموعة (فلايشمان)، ونحن نعلم أنه لا يمكن دمج ذرات الهيدروجين للوصول إلى الهليوم، إلا بتفجير ثلاث قنابل ذرية حسب معادلة (ستانسيلوف أولام) بمبدأ القبضة الفولاذية الرباعية (FFFF=Fission-Fission-Fission-Fusion) ترفع الحرارة إلى ملايين الدرجات فتنقل الاستعار النووي من باطن الشمس إلى ظهر الأرض.
ولعل دجلا من هذا النوع يحصل في هوليوود فتخرج فلم (القديس The Saint) عن هذه (الفورمولا) ولكن لا تصلح للعلم الحقيقي بحال. وهكذا فالدجل تشتد فوعته بقدر العمق العلمي وأعظم الدجالين كانوا كهنة فرعون ولم يتم تدجيل وتجهيل المواطنين بقدر مهنة الكتابة على يد كهنة معبد أوروك.. ومنه قال القرآن فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله فويل لهم مما كسبت أي