في السابق، كان أبناء المغاربة يتوارثون الملابس والكتب والفقر. ورغم ذلك، نجح الكثيرون في الوصول إلى بر الأمان في بلد لا بد لمن “لا كالة له” أن يغرس أظافره في الصخر لكي يفلت من البطالة و”قلة الشي”.
في العهد الذي كانت فيه مؤسسات التعليم الخاص تستقبل فقط ذوي السوابق في الرسوب، وقبيلة الكسالى، والمعطوبين ذهنيًا، ومن يعانون فقراً في المادة الرمادية، كانت الأسر الشعبية تدين بالولاء للمدرسة العمومية.
كما كان أبناء عموم الشعب يبيعون المقررات المستعملة ويشترون أخرى، أو يتم تبادلها مع دفع فرق بسيط، وكانت حمولة شكارة التلميذ لا تتجاوز 150 درهمًا في أسوأ الحالات.
حدث ذلك قبل أن يصبح للفساد أكثر من رأس داخل قطاع التعليم، وقبل أن تتحول بعض المديريات بالوزارة إلى شركات تُفرخ الصفقات التي تلد الملايير دون أي جهد، إذ يكفي تغيير عنوان، وإضافة بعض الجمل للحصول على ربح سهل يتم اقتسامه بين بعض القطط السمان بالمديرية وبعض الناشرين.
حين تم تعيين مدير جديد للمناهج، اعتبرنا الأمر حدثًا مهمًا اعتبارًا لكون الوزراء الذين تعاقبوا لم يستطيعوا اقتلاع مسمار صدئ كان مغروسًا في هذه المديرية، رغم أن رائحة فساده تجاوزت مقر الوزارة بباب الرواح إلى مقر رئاسة الحكومة بالمشور السعيد.
هذا المسمار هو من كان وراء فضيحة حقيقية ذهب ضحيتها آلاف الأسر ومئات المكتبات بسبب مقررات دراسية “بيريمي” تم تسويقها وبيعها وإفراغ المخازن منها، قبل الإعلان عن نسخة جديدة. جاء ذلك بعد ممارسة أقل ما يقال عنها إنها تنطوي على “نصب واحتيال”، كما تعيد للواجهة العبث الكبير و”التواطؤات” التي لطالما اشتكى منها الكتبيون.
“تواطؤات” تطال سنويًا سوق الكتاب الدراسي من خلال “ضوباج” تجاري هاجسه الربح على حساب المغاربة، وعنوانه المموه هو “تجويد المضمون”.
اليوم نكتشف أن “مسامير الميدة” لا تزال بالوزارة، بل والتحق بها مسمار آخر يجر ورائه أرشيفًا طويلاً عنوانه العصابة التي تحدث عنها المستشار “اللبار”.
لا نشكك في نوايا بنموسى الإصلاحية، لكن عيب الرجل أنه غير مدرك لحروب المماليك التي تجري بالوزارة وخارجها، والتي تجعل أي وزير مثل “دونكيشوط” حقيقي.
حين سألنا الوزير عن شبهات الفساد التي تلاحق عددًا من الصفقات، بدا الرجل مرتبكًا وحصر جوابه في المدرسة الرائدة التي قال إن ميزانيتها متواضعة.. وما فات الرجل أن الأمر يتعلق بعشرات الملايير التي صارت توزع مثل كعكة.. تمامًا كما حدث في صفقة تهريب العملة التي مُنحت لطريطورة مختصة في تنظيم حفلات أعياد الميلاد لطبع كتب مدرسية ضمن “المدرسة الرائدة” بكل من اسبانيا والبرتغال.. الصفقة تم طبخها تحت إشراف ثلاثة من مسامير الميدة.. اثنان بالوزارة وثالث بأكاديمية الرباط.. لكن يده طويلة وتنسج صفقات دسمة في مختلف ربوع المملكة وخاصة بأكاديمية الشمال.
لقد سبق وأن نشر الكتبيون أمام رئيس الحكومة السابق غسيل وفضائح هذا السوق الكبير، كما عروا حقيقة أن بعض المقررات تتعرض عنوة لتنقيحات تافهة بغرض إبطال مفعول النسخ القديمة، وإجبار الأسر والمكتبات على اقتناء النسخ الجديدة.
حينها تحسس من يهمهم الأمر الريشة التي فوق رؤوسهم، وتم تجميد عمليات تغيير المقررات، قبل أن تعود حليمة لعادتها القديمة. للأسف، الضحايا هم آلاف التلاميذ الذين يتم إرباكهم بمقررات تختلف من فصل لآخر ومن مدرسة لأخرى. كما أن الضحية هي الأسر التي صارت تبحث عن مقررات لم تصل، وهي تحمل نسخًا تبين أنها منتهية الصلاحية، بعد أن صار عمر الكتاب المدرسي في زمن العبث الكبير لا يتجاوز في بعض الأحيان سنة واحدة.
لقد سبق لمديرية المناهج، وبعد الزوبعة التي أثارها تفريخ صفقات المقررات و”مارشيات” النسخ المنقحة، أن اجتهدت في تدبيج بلاغ طويل لتبرير التغييرات المستمرة في المناهج. تبريرات اتضح اليوم أنها كانت مجرد محاولة لاحتواء الفضائح التي فجرها الكتبيون.
الدليل أن أبناء المغاربة لا زالوا تائهين في كل موسم دراسي بين نسخ السنة الماضية، وبين مقررات تم طبخها في “طنجرة ضغط” لإخراجها للسوق بعد انطلاق الموسم الدراسي. سلوك له نكهة تجارية لم تعد خافية على أحد.
رحم الله زمنًا كنا نحتج فيه بشعار: “آش قريتونا… قرد بقرة برتقال…” لم نكن ندرك حينها أننا سنرى بقراً غريبًا وتعليمًا أغرب، ووزيرًا خارج التغطية على عهد هذه الحكومة.