كثيرة هي النعوت التي تطلق على عصرنا الحالي، من قبيل عصر السرعة، وعصر الانفجار المعلوماتي، وعصر الرقمنة، وعصر الذكاء الاصطناعي، وما إلى ذلك من الأوصاف التي تنصب في مجملها على ما أحرزه العالم من تقدم مذهل في المجال التكنولوجي خاصة. ومن المفارقات العجيبة وسم هذا العصر بعصر التفاهة، ويعتبر هذا الوسم بمثابة وصم شنيع؛ نظرا لما ينطوي عليه من مذمة وانتقاص من كل ما يمت بصلة لمظاهر السخف والفجاجة والابتذال.
والتفاهة اليوم ليست حالة معزولة أو ظاهرة هامشية محدودة الأثر بحيث يمكن التهوين من حجمها، أو الاستخفاف بانعكاساتها؛ إنما هي ظاهرة اجتاحت مختلف مناحي الحياة؛ مما جعل كثيرا من العقلاء يفطنون إليها، ويحذرون من أخطارها، ومن أبرز هؤلاء المفكر الكندي المشهور”ألان دونو” الذي خصها بكتاب قيم حظي بكثير من التداول، يحمل عنوان “نظام التفاهة”.
يقول الدكتور مشاعل عبد العزيز الهاجري في تقديمه للترجمة التي أنجزها لهذا الكتاب: “يقصد نظام التفاهة إلى إسباغ التفاهة على كل شيء، وتكمن الخطورة الحقيقة للأمر في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقيق بسلاسة”.
إن معنى هذه القولة، وبصرف النظر عن مبناها، يؤكد بكثير من الوضوح ثلاث حقائق رئيسة:
الأولى: التفاهة نظام، بالمعنى الاصطلاحي لمفردة نظام الدالة على مجموعة من العناصر المترابطة بينها ترابطا متكاملا منسجما.
الثانية: شمولية الغاية؛ أي إن نظام التفاهة يستهدف مختلف المجالات.
الثالثة: شدة خطورة التفاهة، ويعزى ذلك إلى ما تتميز به من يسر ومرونة.
وإذا ما أردنا اختزال هذه الحقائق الثلاث في عبارة في غاية الاقتضاب، فلنا أن نقول بأن التفاهة نظام شامل خطير، وترجع خطورته بالأساس إلى سهولة الإنتاج والترويج والتداول؛ فالتفاهة كالنار سهلة الاشتعال، سهلة الانتشار تلتهم كل ما تجده في طريقها من مواد قابلة للاشتعال مثل الهشيم، وتصبح خطورتها مضاعفة عندما يكون المستهدفون هم الأطفال؛ لأن الأطفال هم رجال الغد، وبناة المستقبل، والطفولة مرحلة قاعدية من مراحل عمر الإنسان، تتميز بمجموعة من المميزات؛ لعل أهمها عدم اكتمال النمو على جميع مستويات الشخصية، البدنية، والعقلية، والانفعالية، والاجتماعية؛ فالأطفال يتميزون بقصور الفكر، وانعدام الخبرة، وهشاشة الإحساس، والميل إلى التقليد، وسهولة الانقياد لرياح التوجيه.
والمصيبة الكبرى هي عندما يزج الراشدون، بوعي أو بجهل وضلال، بالأطفال إلى عالم التفاهة؛ وهو عالم مفعم بضحالة الفكر، ووقاحة السلوك، وانحطاط القيم؛ وذلك من خلال تركهم هملا، بلا رعاية ولا رقابة، يتابعون بكل حرية المحتويات الهابطة على أجهزتهم الإلكترونية من هواتف ولوحات وحواسيب، وقد يصل الأمر إلى أن يشاركوهم في المتابعة والتفاعل بلا أدنى حرج أو غضاضة، والأدهى والأمر عندما يقحمونهم في صناعة هذه المحتويات، ويتخذونهم وسائل يستغلونها للكسب المادي السريع المريح. أليس من الخطر أن تصبح التفاهة أحاديث في المجالس الأسرية يشترك فيها الكبار والصغار؟ أليس من الخطر تصوير طفل بريء وهو يردد عبارات جوفاء، أو يضحك ضحكات بلهاء، أو يقوم بحركات بذيئة، والقصد من وراء ذلك الاغتناء على حساب نموه نموا متوازنا سليما؟
ومن المفيد هنا الوقوف على بعض الأضرار التي تلحق الأطفال جراء وقوعهم بين براثن التفاهة:
– تضييع أوقات ثمينة سدى، كان من الأجدى إنفاقها في ما يجلب المنفعة، وصرفها في ما يدرأ المفسدة، إما في تحصيل معارف، أو تطوير مهارات، أو صقل مواهب، أو اكتساب قيم، أو ممارسة أنشطة رياضية، أو الترويح عن النفس بالألعاب التربوية الهادفة.
– التعود على استقبال توافه المواد قد يتحول إلى إدمان من شأنه أن يورث الأطفال نفورا من الجدية والمثابرة، وإعراضا عن كل ما يتطلب إعمال النظر، وتنشيط الذهن، والحفز على البحث، وإذكاء الفضول المعرفي، وتحصيل الخبرة، فيؤدي بهم الارتكان إلى الخمول إلى ثقل في الفهم، وركود في الفكر، وضعف في الذكاء، وفساد في الذوق، وتبلد في الإحساس.
-الاستهانة بالقيم النبيلة، ومنها قيمة العمل في الحياة؛ ذلك أن الأطفال عندما يعلمون بأن مقطع فيديو فارغا إلا من الرداءة والبلادة ذاع وانتشر، وحصد من الإعجاب ما حصد؛ بل ودر على صانعه بلا تعب عائدا ماليا خياليا، تهتز نظرتهم إلى الحرف والمهن والوظائف التي يرون فيها أعمالا مرهقة تتطلب بذل مجهودات عضلية أو فكرية خلال ساعات طويلة متواصلة من الكدح مقابل أجور زهيدة.
– الانسياق وراء التقليد الأعمى من خلال التشبه بالتافهين في مظاهرهم وأحوالهم، فتجدهم يرددون أحاديثهم الفارغة، ويحاكون حركاتهم المبتذلة، غير واعين بأنهم يسيرون، على غير هدى، خلف مشاهير مزيفين، صنعهم نظام التفاهة، ليعيدوا إنتاج التفاهة، هذه التفاهة التي لا تتطلب منهم سوى هاتف نقال، وطبع سيء، وفكر سطحي، واجتراء أرعن، وتوقح زائد؛ بينما كان الأصح والأجدى أن يهتدوا بالنماذج الإيجابية، ويقتدوا بالقدوات الصالحة من ذوي الفكر المبدع الخلاق، والعقول النيرة، والمبادئ السامية، والقيم النبيلة، والمنجزات الباهرة النافعة.
وبعد، لقائل أن يعترض قائلا بأن الحديث عن خطر التفاهة على الأطفال فيه كثير من المبالغة والتهويل؛ لأن الأمر يهون إذا ما استحضرنا الأخطار الحقيقية التي تحدق بالأطفال اليوم، من تجويع، وتهجير، وتخويف، واستغلال، وعنف، وما إلى ذلك من مظاهر الانتهاك والاعتداء؛ بل قد تبلغ هذه الأخطار منتهاها عندما يحرم الأطفال من أسمى وأجل حق ألا وهو الحق في الحياة.
في الحقيقة هذا اعتراض على قدر كبير من السداد، لكن اليقظة تقتضي الاستباق إلى دق أجراس الخطر؛ لأن اكتساح التفاهة للمجتمع بقيمه المادية والروحية؛ وتسللها إلى عالم الأطفال، عالم الغرارة والبراءة، من شأنه أن يشغل الأنظار عن الأخطار آنفة الذكر، وهنا لا بد من التنبيه بكثير من الهدوء إلى أن ذلك يدخل ضمن استراتيجية نظام التفاهة، الذي من مقاصده الخفية حجب الحقائق، وتربية الجيل الصاعد على التفاهة، لينشأ جيلا ضائعا، مستلبا، لاهيا عن شؤون الأمة الخاصة، منشغلا عن قضايا الإنسانية المشتركة.
وصفوة القول بناء على ما تقدم، إن الفهم الواعي لما تشكله التفاهة من مخاطر على الأطفال حالا ومستقبلا مدخل أساسي لحمايتهم من سيلها الجارف؛ على أن الحماية الفعلية تكون بانخراط مختلف المؤسسات المعنية بالطفولة في محاصرة مظاهرها المستشرية، وذلك من خلال تصليب منظومة القيم، وتجويد التربية والتعليم، ومكافأة التميز، ومعالجة التعثر.