“سنة بيضاء أرحم من مستقبل أسود”؛ هذا ما أصبح يتردد على ألسنة الآلاف من “أطباء الغد” بعدما لم تفض وساطة مؤسسة الوسيط، آخر حلقة في مسلسل أزمتهم، إلى اتفاق بينهم وبين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر، متجيهن أمام عدم تسوية هذه الأزمة التي تخطت شهرها العاشر إلى خوض أشكال “تصعيدية” جديدة، تمثلت أساسا في الاعتصام ليلا والمبيت في العراء أمام الكليات، لم تكن تجاربها الأولى في كلية الرباط تحديدا لتخلو من “احتقان” يحملون مسؤوليته لـ”رئيس الحكومة ووزير التعليم”.
وقبل أن تصل إلى هذا المنعرج هذه الأزمة التي تهدد بفقدان دفعة قوامها 17 ألف طبيب في وقت يشكو فيه القطاع الصحي خصاصا مهولا في الأطباء يعاكس طموحات الدولة الاجتماعية، مرت بعدد من المحطات التي اتسمت حينا بالتصعيد وحينا آخر بالتفاوض والحوار حول النقاط العالقة في الملف المطلبي لطلبة كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان.
“كرونولوجيا الأزمة”
بدأت الحكاية حين شرع طلبة الطب والصيدلة في أكتوبر الماضي في خوض وقفات احتجاجية وإضرابات وطنية شاملة عن الدروس النظرية والتطبيقية والتداريب الاستشفائية، بناء على دعوة من اللجنة الوطنية للطلبة التي رفضت عدم إشراكها من قبل وزارتي التعليم العالي والصحة في القرارات المتصلة بهيكلة النظام الجديد للدراسات الطبية والصيدلية بالمغرب.
ومن ضمن القرارات التي انتفض ضدها الطلبة بقوة منذ تلك الفترة، قرار تقليص سنوات الدراسة من سبع إلى ست سنوات، “ضمانا لحقهم في جودة التكوين”، ضمن ملف مطلبي شمل 50 مطلبا، منها رفع التعويض عن المهام والحق في الاستفادة من التغطية الصحية وهيكلة الشق التطبيقي.
رغبة منهم في دفع الوزارتين إلى الاستجابة لهذه المطلب، قام الطلبة بإنزال وطني بالرباط يوم 8 دجنبر 2023، تبعه الدخول في مقاطعة مفتوحة للامتحانات والتداريب الاستشفائية في 16 دجنبر. وبعد مرور شهر على هذه الخطوة دون “استجابة مرضية ومقنعة”، قام الطلبة بإنزال وطني ثان في 19 يناير ثم ثالث خاضوه رفقة أولياء أمورهم يوم 29 فبراير.
الإنزال الأخير جاء ردا على تمسك وزيري التعليم العالي والصحة في الندوة الصحافية التي عقداها يوم 22 فبراير الماضي، “بالقرار السيادي” القاضي بتقليص سنوات التكوين من سبع إلى ست سنوات رغبة في “تجويد التكوين”، وإعلانهما الشروع في “زجر” الطلبة المقاطعين، لا سيما عبر منح نقطة “صفر” لمقاطعي الامتحانات.
خطوة أخرى صبت الزيت على نار الأزمة، تمثلت في قيام عدد من الكليات في مارس الماضي بحل مكاتب الطلبة، وشروع بعضها في توقيف عدد من الطلبة، خصوصا الناشطين ضمن اللجنة الوطنية لطلبة الطب والصيدلة وممثليها بهذه الكليات. ليستمر “أطباء الغد” في مقاطعة الامتحانات، رادين على دعوات اجتيازها بـ”مسيرة الغضب” يوم 16 يوليوز، التي منعت من قبل السلطات الأمنية وتحولت إلى وقفة احتجاجية.
في اليوم ذاته، أكد عبد اللطيف ميراوي، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، خلال جلسة لمجلس المستشارين، تجاوب “الحكومة” بشكل إيجابي مع مطالب الطلبة، بحيث “عقدت معهم منذ شهر فبراير 2024 ما يصل إلى 14 اجتماعا، كان بعضها ليلا، إلا أنها كانت تتفاجأ بعد عودة لجنة طلبة الطب للجموع العامة بتغيير موقفها ورفض العرض الحكومي”، متعهدا بـ”البت في العقوبات ورفع نقطة الصفر وبرمجة التداريب الاستشفائية، شريطة اجتياز الامتحانات واستعادة السير العادي بالكليات”.
“وساطات على الخط”
لم تجد دعوة ميراوي آذانا صاغية من الطلبة الذين استمروا في مقاطعة التداريب الاستشفائية وامتحانات الدورات الربيعية والخريفية، وكانت آخر امتحانات قاطعوها في هذا السياق الاختبارات الاستدراكية للأسدس الأول التي كانت مقررة في الخامس من شتنبر الجاري بنسب تفوق 90 في المئة، متشبثين بالمطالب العالقة: “استثناء الدفعات الحالية من قرار تقليص التكوين، إلغاء التوقيفات والعقوبات التأديبية وحل المجلس، وبرمجة الامتحانات في دورتين بفرصتين”.
قبل هذه المقاطعة، كانت فرق الأغلبية والمعارضة قد قادت وساطة بين طرفي الأزمة، دون أن تفضي إلى اتفاق، تلتها خلال أواخر غشت الماضي وساطة للأغلبية بين أولياء الأمور والوزير عبد اللطيف ميراوي، غير أنه سرعان ما تم “رفضها من قبل اللجنة الوطنية للطلبة” رغم أنها أفضت إلى تعهد الكليات بمنح دورة استثنائية للطلبة الذين اجتازوا الامتحانات الأخيرة.
بعد تسعة أشهر، وضع طلبة الطب والصيدلة ملفهم في شتنبر الجاري أمام وسيط المملكة الذي قاد جلسات عدة بين ممثليهم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي وعمداء الكليات، أفضت إلى تسوية الملف المطلبي لطلبة شعبة الصيدلة بتوقيع محضر الأحد 22 شتنبر الماضي بين ممثليهم والوزارة في شخص كاتبها العام، محمد الخلفاوي، في حين لم تتم تسوية ملف طلبة شعبة الطب الذين رفضوا العرض الحكومي خلال هذه الوساطة بنسبة 75 في المئة.
وفي حين أعلن هؤلاء عبر بلاغ سابق للجنة الوطنية لطلبة الطب والصيدلة عزمهم “تنظيم الاعتصامات الليلية والوقفات الاحتجاجية طيلة الأسبوعين القادمين، وصولا إلى خوض إنزال وطني ضخم يوم 15 أكتوبر المقبل”، لم يصدر عن الوزير عبد اللطيف ميراوي حتى الآن أي رد بخصوص مآل هذه الأزمة، وهو ما يجر عليه انتقادات من طرف فرق المعارضة تحديدا، التي ترى في “تمسكه بفرض قرار تقليص سنوات التكوين من سبع إلى ست سنوات على طلبة الدفعات الخمس الأولى الحالية، رغم وجود حلول كثيرة لحل أم النقاط العالقة، دليلا على تدبير ارتجالي لهذا الملف”.
“تدبير ارتجالي”
قال رشيد حموني، رئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب، إن “عدم التوصل إلى حل لهذه الأزمة طيلة الأشهر العشرة الماضية، وما كان له من تبعات التعنيف والاحتقان الذي شهده فض اعتصام طلبة كلية الرباط، راجع إلى تدبير الحكومة للأزمة بطريقة ارتجالية”، مسجلا أن “الحكومة تجاوبت مع أغلب المطالب التي رفعها هؤلاء الطلبة بالفعل، ولكن الارتجالية تجلت في تمسك الوزير خلال مختلف المحطات التفاوضية، وآخرها محطة الوسيط، بفرض قرار تقليص سنوات التكوين من سبع إلى ست سنوات على طلبة الدفعات الخمس الأولى”.
وأوضح حموني، في تصريح لهسبريس، أن “هذا التوجه نحو 7 سنوات تكوين للدفعات الحالية أو لا محضر اتفاق، هو ما جعل هذه الأزمة تعمر وستعمر طويلا، وهو يصدر عن افتقار هذه الحكومة إلى الثقافة السياسية؛ لأن المفروض في أي حكومة خلال أزمة ما أن تطرح ثلاثة حلول كقاعدة للتفاوض على سبيل المثال”، مسجلا “ضمن أسباب هذه الأزمة المرتبطة بالمسؤولين الحكوميين وضمنهم الوزير الوصي، عدم إجادتهم للتواصل والتحاور وشرح الأزمة”، على أن “ممثلي الطلبة بدورهم تقع عليهم مسؤولية في هذا الإطار؛ لأن عدم حيازتهم للقرار واضطرارهم إلى الرجوع دائما إلى الجموع العامة يصعب بدوره إيجاد حل بشكل سريع”.
واتفق المتحدث على أنه “مبدئيا، يجب على الوزارة تجويد العرض الحالي أمام تصلب الطلبة في رفضه، خاصة وأن التعاقد الذي بين طلبة فوجي سنة 2023 و2024، أي فوجي ما قبل الإصلاح، والكليات هو تكوين مدته سبع سنوات وليس ست”، مشددا على أن “لهذا المطلب البسيط حلولا كثيرة جدا، من ضمنها جعل السنة السابعة اختيارية، وهو مقترح صوت عليه الطلبة بالإجماع قبل أن يتراجعوا عنه للأسف، أو احتساب السنة السابعة في إطار خدمة صحية وطنية بالمناطق النائية، ما سيحل أيضا إشكالية الخصاص التي تدفع بها الحكومة لتبرير الإصلاح”، مؤكدا أن “تصلب الحكومة في الدفاع عن عرضها وعدم امتلاك ممثلي الطلبة للقرار التفاوضي، سيجعلان جهود حل هذه الأزمة تصل إلى نفق مسدود”.
“تعنت وصمت”
عبد الله بوانو، رئيس المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية، اختار بداية “التنديد باللجوء إلى فض الاعتصام السلمي الأخير لطلبة الطب والصيدلة بالرباط عن طريق العنف الذي يثير التساؤلات حول الرسالة التي نريد من خلاله توجيهها إلى هؤلاء الطلبة الذين يعدون من نخبة أبناء المغاربة المعول عليهم للنهوض بقطاع حيوي ببلادنا”، محملا “مسؤولية كل ما آلت إليه الأوضاع بخصوص هذه الأزمة، سواء استمرار المقاطعة أو تحول الطلبة نحو المبيت في العراء، إلى التعنت الحكومي في حل هذا الملف طيلة عشرة أشهر”.
وانتقد بوانو، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، “استمرار صمت الوزير الوصي حتى الآن، وعدم قيامه بأي خروج رسمي لتوضيح مآل هذه الأزمة إلى الرأي العام، ما قد يفسر بإدراكه فشل وزارته والحكومة ككل في طي هذه الأزمة”، معتبرا أن “التوقيع على محضر اتفاق بين الوزارة وشعبة الصيدلة بفضل وساطة مؤسسة الوسيط، ليس إلا دليلا على أن لحكومة ظلت منذ 16 دجنبر 2023 تتلكأ في الاستجابة إلى مطالب هؤلاء”.
واعتبر رئيس مجموعة العدالة والتنمية بمجلس النواب أن “تمكن وساطة الوسيط من تسوية الملف المطلبي لطلبة الطب أيضا ممكن إذ تراجعت الوزارة عن العرض غير المتسم بالمسؤولية الذي قدمته خلال هذه الوساطة بخصوص المطالب الثلاثة المتبقية التي تعد الاستجابة لها بسيطة جد”، موردا: “بخصوص المطلب الأساسي المتعلق برفض تقليص سنوات التكوين، فإنه من غير المعقول الإصرار الحكومي على فرض هذا الإصلاح البيداغوجي على الدفعات الحالية، رغم أن القانون لا يطبق بأثر رجعي”، معتبرا أن “للطلبة بموجب عدم رجعية القوانين الحق في التمسك بهذا المطلب؛ لأنهم في نهاية المطاف تعاقدوا مع الكليات على أساس 7 سنوات وليس 6 سنوات”.
وذكر رئيس مجموعة “المصباح” أنه “بخصوص مطلب إلغاء التوقيفات، فمن غير المستساغ أن الوزير كان قد وعد البرلمانيين خلال وساطة غشت بإرجاع الموقوفين دون قيد أو شرط، مطمئنا بأن هذه النقطة لم تعد محط إشكال، ثم يعتبر كما بلغنا خلال جلسات الوسيط أن الحسم في هذه المسألة راجع إلى مجالس الكليات”.
بوانوا شدد على أن “عدم جدية الوزارة ولا مسؤوليتها تجلتا أيضا في تعهدها بمنح فرصة واحدة في امتحانات كل أسدس، بعدما كان ميراوي يتعهد منذ يونيو باستفادة من سيجتاز الامتحانات من فرصتين في كل امتحانات، وكرر العرض نفسه تقريبا عقب وساطة الأغلبية بمنحه دورة استثنائية لمن سيجتازون الاختبارات الاستدراكية للفصل الثاني التي جرت مقاطعتها”.