بعيدا عن المخاض العسير الذي تمر منه المشاورات المعقدة لإخراج قانون ينظم ممارسة الإضراب وتنزيل إصلاح أنظمة التقاعد القريبة من الإفلاس، تنتصب تساؤلات حول قيام الحكومة بفتح هذه الملفات الشائكة، بعد مضي قرابة 3 سنوات على توليها مسؤولية تدبير الشأن العام، وعزمها إنهاء الجدل الذي يرافق هذين القانونين المهمين قبل إسدال الستار عن الولاية الحكومية الحالية.
الشجاعة السياسية أو الجرأة المبالغ فيها ، كما فضل أن يسميها معارضو استعجال الحكومة بإخراج قوانين وإصلاحات بالغة الأهمية، في حيز زمني محدود، واجهتها انتقادات واسعة من المركزيات النقابية وفعاليات المجتمع المدني ومتتبعين للشأن السياسي والحقوقي بالمغرب، معتبرين أن تنظيم ممارسة الإضراب وإنقاذ صناديق التقاعد من إفلاس مرتقب أمر إيجابي شريطة ألا يكون على حساب الحقوق والمكتسبات التي راكمتها الطبقة العاملة طوال السنوات الماضية منذ استقلال المغرب .
وتراهن الحكومة على ما تبقى من شهور في عمر ولايتها الحكومية لخلق إجماع على التصور الذي تحمله على تنظيم الحق في ممارسة الإضراب وضمان استدامة أنظمة التقاعد قبل أن تحل بها الكارثة الكبرى وإنجاح أوراش عَجَزت، حسب خرجات وزرائها، حكومات سابقة حتى عن الاقتراب منها. وهو ما يراه عدد من المتتبعين للشأن السياسي أمراً شبه مستحيل لما لهذه القوانين والإصلاحات من حساسية وتعقيدات لكثرة المتدخلين والمعنيين بها.
ومنذ انفجار سلسلة من الاحتجاجات الفئوية وخوض المحتجين لعدد من الإضرابات التي شلت قطاعات حيوية خلال الأشهر الماضية، مرت الحكومة إلى السرعة القصوى في تعاملها مع ملف تقنين الإضراب، كما عجل استشعارها قرب عجز صناديق التقاعد على استعياب عدد أكبر من المتقاعدين خلال السنوات المقبلة بفتح ورش إصلاح أنظمة التقاعد في وقت لا تتفق فيه النقابات مع تصور الحكومة وذلك برفضها ما تسميه الثالوث الملعون (اقتطاعات أكثر، سنوات عمل أكثر، ومعاشات أقل).
رهان شبه مستحيل
عبد الرحيم العلام، أستاذ القانون الدستوري وعلم السياسة بجامعة القاضي عياض بمراكش، اعتبر أن نجاح الحكومة في إخراج القانون التنظيمي للإضراب وتنزيل الإصلاح المرتقب لأنظمة التقاعد قبل نهاية الولاية الحكومية الحالية هو أمر شبه مستحيل ، مبرزا أنه من بين الإشكالات التي قد تعرقل تسريع هذه الأوراش الكبرى هو عدم اقتصار المتدخلين في هذه العملية في الحكومة والمركزيات النقابية ، مشيرا إلى أنه حتى الباطرونا لها رأي في هذه المواضيع .
وأمام التحديات الزمنية أو السياسية التي قد تواجه الحكومة خلال ما تبقى من عمر ولايتها في خلق إجماع على مشروع القانون التنظيمي للإضراب أو تبديد المواجهة الشرسة التي يلقاها إصلاح أنظمة التقاعد، أشار العلام إلى أنه قد تُخرج الحكومة سلاح الحكومات السابقة بالاقتداء بقاعدة كم حاجة قضيناها بتركها .
وتابع المتحدث ذاته، في عرضه مبررات ترجيحه عجز الحكومة عن استكمال هذه الأوراش الإصلاحية والقانونية الكبرى، أن الحكومات في الغالب تتخذ القرارات التي يثار حولها الجدل في بداية ولايتها وليس في نهايتها ، مشددا على أن ملفي التقاعد وتنظيم الإضراب لهما تأثير كبير على شعبية أي حكومة لارتباطهما بفئة واسعة من المواطنين .
وأورد المحلل السياسي ذاته أن تنظيم ممارسة الإضراب وقيادة إصلاح أنظمة التقاعد قد يضرب في العمق شعبية هذه الحكومة التي تعاني أصلا من أزمات متراكمة منذ سنتها الأولى من الولاية الحكومية ، مسترسلا أنه من المستبعد أن تغامر الحكومة بشعبيتها لتنزيل هذه الإصلاحات أو أن تنتحر لإخراجها إلى أرض الواقع .
شجاعة سياسية ناقصة
ومنذ بدء الحديث عن انطلاق الحكومة في إجراء مشاورات ولقاءات مع المركزيات النقابية للتوافق حول النقاط الخلافية وإخراج قانون ينظم ممارسة الإضراب وتنزيل إصلاحات في أنظمة التقاعد قبل نهاية عمر الولاية الحكومية الحالية، لم يتوقف وزراء الحكومة عن اعتبار فتح النقاش حول هذا الموضوع شجاعة سياسية منها لم تتوفر عليها أي من الحكومات السابقة.
ما يعتبره وزراء الحكومة شجاعة سياسية واجهه الأكاديمي والمحلل السياسي ذاته بأن الذي يرجع إليه الحكم النهائي في تقييم أي إصلاح هو الشعب وليس الحكومة بنفسها ، مشيرا إلى أن إشادة بعض الهيئات المدنية المعروفة انتماءاتها أو بعض الهيئات الدولية بهذه الإصلاحات، إن تمت، لن تكون كافية لمباركة تصورات وتوجهات الحكومة في هذه الملفات الاجتماعية المهمة .
وفي السياق ذاته، سجل العلام أن المعني بهذه القوانين والإصلاحات هو الذي له الأسبقية في إعطاء الرأي وتقييم إجراءات الحكومة سواء في الإضراب أو التقاعد ، مؤكدا أن عدد المواطنين الذي يتخوفون من عصف إصلاح أنظمة التقاعد بمكتسباتهم السابقة لن يتفقوا مع شعارات الحكومة التي تعتبر فتح النقاش حول هذا الموضوع إنجازا دون أن ترتب الأمور بالشكل الكافي لإقرار إصلاحات حقيقية تعزز من حقوق المواطنين الاجتماعية .
وأشار المصرح نفسه إلى أن موضوع الإضراب سيهم 4 إلى 5 ملايين مواطن مغربي بمن فيهم أجراء القطاع الخاص في وقت تمس إصلاحات أنظمة التقاعد قرابة مليون متقاعد ، مشددا في الجانب ذاته على أن جزءا كبيرا من هذه الفئة لن تقبل المساس بالحريات النقابية ولن توافق على إصلاح الصناديق على حساب قدرتهم الشرائية ودخلهم القار .
وأمام موجات الرفض والغضب التي تلاحق شروع الحكومة في مناقشة مقتضيات القانون التنظيمي للإضراب وبروز بوادر فلسفتها لإصلاح صناديق التقاعد، لم يستبعد المصرح نفسه أن يرافق هذا النقاش داخل المؤسسات احتجاج وإضرابات خارج المؤسسات طوال ما تبقى من عمر الولاية الحكومية.
احتمالية الإصلاح النسبي
ولتجاوز كل هذه الاحتمالات التي قد تشوش على عزم الحكومة إنهاء النقاش لهذه الملفات قبل وضعها مفاتيح تدبير الشأن العام سنة 2026، لفت العلام إلى ضرورة اعتماد إصلاح نسبي لا يحتمل تبعات مادية بالنسبة لأنظمة التقاعد وإقرار قانون للإضراب لا يحد من الحريات ويضمن مزيدا من الحقوق .
وأضاف المحلل السياسي أن إقرار إصلاحات بهذه الشروط سيلعب لصالح الحكومة وأحزاب الأغلبية في الانتخابات المقبلة ، مستدركا أن اعتماد قانون إضراب يضمن الحريات والحقوق بشكل واسع وتنزيل إصلاح لأنظمة التقاعد بشكل لا يضيف نسبة مساهمة إضافية أو لا يرفع من سن التقاعد لن تقبله الباطرونا .
واستدلّ الأستاذ الباحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري بتركيبة الحكومة في علاقة بإقرار إصلاحات وتشريع قوانين تنصف الشغيلة وتعزز حقوقهم بالتساؤل: كيف لحزب يصنف في خانة أحزاب الأطر وبرلمان أغلبيته من رجال الأعمال أن يصوت لصالح قوانين وإصلاحات تخدم مصالح الطبقة العاملة؟ .
وفي تقديره لمستقبل الحوار حول مشروع القانون التنظيمي للإضراب ومشروع إصلاح أنظمة التقاعد خلال ما تبقى من عمر الولاية، لم يستبعد العلام أن يستمر الجدل والنقاش حول هذين الملفين الشائكين إلى أن تبقى 6 أشهر عن انتهاء الولاية الانتدابية للحكومة فتصدره للحكومات القادمة .
تأخر غير مفهوم
ولأن الحكومة لم تفتح هذا النقاش إلا بعد مرور قرابة 3 سنوات على تولي أحزاب الأغلبية مهمة تدبير الشأن، اعتبر الأكاديمي ذاته أن هذا لوحده مؤشر بالغ الأهمية على أن نجاح الحكومة رفع سقف تطلعاتها أكثر من اللازم بتشبثها بتنزيل هذه الأوراش خلال الفترة المتبقية ، مبرزا أن ضيق الوقت لن يسمح في الغالب بتحقيق مبتغى الحكومة إن كانت فعلا جادة في ذلك .
وتابع العلام أن الذين ينتقدون الحكومة اليوم بأنها ترفع شعارات للاستهلاك السياسي والإعلامي يدفعون بمبرر واقعي وهو لو أن الحكومة كانت فعلا ترغب في تنظيم قانون الإضراب وإصلاح أنظمة التقاعد القريبة من الإفلاس لباشرت هذه الأوراش منذ أول يوم من تعيينها لما تتطلبه من حيز زمني سياسي كافٍ لمناقشتها والتفاوض بشأنها ، مشددا على أنه لو بدأت الحكومة الاشتغال على هذه المواضيع انطلاقا من شهور تعيينها الأولى لكانت اليوم قريبة من إنهاء النقاش عليها .
ولم يفت الأكاديمي نفسه التذكير برفض المركزيات النقابية في الأصل التفاوض على قانون الإضراب على أرضية مشروع القانون التنظيمي الذي تناقشه عليه اليوم، معتبرا أنه حتى إذا ارتأت الحكومة أن تصحح اعوجاجات المشروع السابق فإن هذا المعطى سيظل من بين أبرز المعيقات التي ستؤخر التوصل إلى اتفاقات نهائية مع المركزيات النقابية حول مجموعة من النقاط المهمة على مستوى تدبير ممارسة الحق في الإضراب .
وأضاف الباحث في العلوم السياسية أنه حتى إذا كانت نية الحكومة هي الاستعجال في إنهاء هذه الملفات التي رافقت الحكومات المغربية منذ السنوات الأولى للاستقلال فإن استعجالها سيؤدي إلى قوانين وإصلاحات ناقصة يمكن أن تورط حكومات مستقبلية في أزمات ومشاكل مع الطبقة العاملة ، موردا أن القوانين والإصلاحات الجيدة تتطلب وقتا كافيا في حين أن القوانين المستعجلة تضرب شعبية أصحابها وهو ما لا يمكن أن تغامر به الحكومة الحالية .