تستمر مضامين تقرير المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بخصوص حصيلة عمله خلال سنة 2023 في الاستئثار بحيز مهم من ساحة النقاش التربوي بالمغرب؛ آخرها ملاحظة تتعلق بمجابهة التعليم العتيق لتحدي “خلو الكتاتيب القرآنية من المتفرغين لحفظ القرآن الكريم مستقبلا، نتيجة لتطبيق مبدأ إلزامية التعليم”؛ رأى باحثون في الشأن التربوي أنها تنطوي على “إيحاء ضمني من المجلس بأن الأطفال المتمدرسين بهذه الكتاتيب محرومون من التعليم الإلزامي، رغم كون هذه الأخيرة بموجب القانون الإطار بمثابة مؤسسات للتعليم الأولي العتيق”.
وأوضح مجلس الحبيب المالكي، في تقريره، أن التعليم بالكتاتيب القرآنية يعرف مجموعة من التحديات، موردا ضمنها “خلو الكتاتيب القرآنية مستقبلا من المتفرغين لحفظ القرآن الكريم بها في صفوف فئات الأطفال الذين يتراوح سنهم بين 4 و16؛ بالنظر إلى مبدأ إلزامية التعليم الذي أقره القانون الإطار للتربية والتكوين والبحث العلمي”، مشيرا من جهة أخرى إلى أن “هذه الكتاتيب لا تضطلع بدور مؤسسات التعليم الأولي”.
ورفض باحثون في الشأن التربوي تحدثوا لهسبريس هذه الملاحظة، موضحين أن “الأطفال الذين يدرسون بهذه الكتاتيب هم في وضعية تعليمية شأنهم شأن أقرانهم بمؤسسات التعليم الأولي”، و”هم مضطرون إلى التفرغ في حفظ القرآن الكريم بها حتى يتمكنوا من ولوج السلك الابتدائي للتعليم العتيق”، معتبرين أن “هذا التفرغ رغم طول مدته فإنه لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على مردودية وأداء هؤلاء في جميع المواد الدراسية”.
“وضعية تعليمية.. وتفرغ ضروري”
في تعليقه على الموضوع، سجل خالد الصمدي، خبير تربوي كاتب الدولة المكلف بالتعليم العالي سابقا، أن “التعليم بالكتاتيب القرآنية هو بمثابة السلك الأولي للتعليم العتيق المنظم بموجب الظهير 13.00، والذي أكد القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين أنه بجميع أسلاكه مكون رئيسي ضمن هذه المنظومة”، لافتا إلى أن “هذه الكتاتيب هي مؤسسات للتعليم الأولي العتيق مؤطرة قانونيا وخاضعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية”.
من هذا المنطلق، عد الصمدي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “الأطفال الذين يدرسون بهذه الكتاتيب هم في وضعية تعليمية شأنهم شأن أقرانهم بمؤسسات التعليم الأولي العادية؛ وبالتالي فإن إيحاء تقرير المجلس ضمنيا إلى أن هؤلاء الأطفال محرومون من التعليم الإلزامي من خلال الحديث عن ضرورة إخلائهم للكتاتيب بالنظر إلى مبدأ إلزامية التعليم حديث يعتبر أمرا غير منطقي وغير مفهوم بتاتا”.
وأوضح الخبير التربوي عينه أن “مؤسسات التعليم العتيق باتت تشترط في الأطفال الراغبين في ولوج السلك الابتدائي أن يكونوا حافظين لقدر معين من القرآن الكريم يصل أحيانا إلى أكثر من 30 حزبا، ولا يمكن لهؤلاء الأطفال، مبدئيا، أن يحفظوا هذا القدر من دون التفرغ داخل الكتاتيب القرآنية”، معتبرا أنه “بهذا المعنى فإن خلو هذه الأخيرة من الأطفال المتفرغين لحفظ القرآن الكريم يعني تجفيف منابع التعليم العتيق؛ بحيث سينعدم الأطفال المستوفون لشروط الالتحاق بالسلك الابتدائي من هذا التعليم؛ وهو ما سيؤدي إلى الضرب في مقتضيات القانون الإطار وخصوصية المجتمع المغربي الذي لعبت هذه الكتاتيب القرآنية أدوارا تربوية مهمة في تاريخه”.
وأكد المتحدث عينه أن “أعمار الأطفال الموجودين في هذه الكتاتيب لا تتجاوز عشر سنوات إلى حد أقصى، حيث إن أغلب الملتحقين بها يتمون حفظ أكثر من نصف القرآن الكريم على الأقل في هذا السن”، معتبرا أنه “لا يمكن نكران أن هذا السن الذي يلتحقون به بالسلك الابتدائي، سواء العتيق أو العادي، متأخر قليلا؛ لكنه لا يؤثر كلية على جودة مردوديتهم وأداءهم المعرفي في جميع المواد الدراسية”.
“لا داعي للملاحظة”
على النحو ذاته تقريبا سار تدخل عبد الناصر الناجي، خبير تربوي رئيس مؤسسة “أماكن لجودة التربية والتكوين”، الذي قال إن “المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي لم يكن له أن يورد هذه الملاحظة، بالنظر إلى أن الاستراتيجية الوطنية للإصلاح والقانون الإطار أكدا أن التعليم العتيق بمختلف أسلاكه، بما فيها الأولي بالكتاتيب القرآنية، جزء من المنظومة التربوية وله جسور مع المكون الآخر لها أي التعليم العادي”.
وأردف الناجي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “هذا التأكيد يستحضر كون التعليم العتيق مرتبط بتقاليد مغربية عريقة وحضور قوي للدين في المجتمع المغربي، الذي طالما حرص على تلقين أبنائه القرآن الكريم ومختلف العلوم الشرعية”.
وأكد رئيس مؤسسة “أماكن لجودة التربية والتكوين”، أن “الأطفال المتمدرسين بالكتاتيب القرآنية، الذين هم بموجب القانون الإطار في وضعية تعليمية وغير محرومين من التعليم الإلزامي، قادرون على الانتقال بسلاسة إلى التعليم العادي والإبانة عن أداء وقدرات معرفية جيدة، رغم طول المدة التي قد يقضونها داخل هذه الكتاتيب أو السلك الابتدائي العتيق العادي”.
وأبرز المتحدث ذاته أن “الدراسات العلمية أثبتت أن العديد من التلاميذ بالسلك الابتدائي للتعليم العتيق يتمتعون بمهارات وقدرات وأداء عالٍ في اللغة العربية والرياضيات ومختلف المواد مقارنة بزملائهم داخل التعليم العادي”.
وأكد الخبير التربوي أن “حفظ قدر مهم من القرآن الكريم داخل الكتاتيب القرآنية هو أمر ضروري لمتابعة الدراسة بالتعليم العتيق؛ وبالتالي فإن خلو الكتاتيب من الأطفال يعني مبدئيا عدم وجود مرشحين مستقبلا لولوج هذا التعليم”، نافيا “وجود أطفال متفرغين لحفظ القرآن الكريم فقط بهذه الكتاتيب؛ لأن الإصلاح الجذري الذي قامت به وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية جعل هذه الكتاتيب المعادلة للتعليم الأولي تعمد، بالإضافة إلى القرآن الكريم، إلى بناء قدرات المتمدرس في الكتابة والحساب وغيرها بواسطة مناهج تربوية”.