recent
آخر المواضيع

هجرة القاصرين تفضح أوهام التربية والتعليم

 
لا زالت تداعيات الحريك الجماعي عبر مدينة سبتة المحتلة ترخي بظلالها على النقاش المجتمعي بكل مكوناته، على اعتبار انخراط قاصرين وأسر بأكملها في هذه الهجرة وليس الشباب فقط الذين كانوا يلجئون إلى الهجرة غير الشرعية بحثا عن مستقبل أفضل، بالنسبة إليهم، هذه الهجرة التي لم يكن القصد من ورائها سوى خلق مشاكل ووضع متاريس في طريق العلاقات بين المغرب وإسبانيا والتي ما فتئت تفتح نافذة لإصلاح ما تكسر بين البلدين الجارين في السنوات الماضية من طرف الداعين إليها والجهات الخفية التي عبأت الشباب والأطفال وشحنتهم بأفكار سوداوية الهدف منها زعزعة الاستقرار الذي يسعى إليه المغرب في مواجهة الأفكار الهدامة التي تجد طريقها إلى العقول الضعيفة بسهولة.

كشفت محاولة هجرة الأطفال عن وجود أزمة بنيوية عميقة تضرب المجتمع المغربي في صمت، فقد عرى الحريك بشكل جماعي ليشمل حتى الأطفال، على هذه الأزمة وجعلها تطفو على السطح، مما يطرح التساؤل الكبير: بماذا تم إقناع هؤلاء الأطفال؟ كيف يمكن لطفل مكانه الطبيعي في حضن أسرته وفي المدرسة، أن يفكر في الهجرة ويرمي بنفسه في غياهب المجهول؟ هل يعي هذا الطفل الذي لا زال في مرحلة التعلم ما الذي ينتظره في الخارج؟ وغيرها من الأسئلة التي أصبحت في حاجة ملحة إلى أجوبة ترمم المجتمع وتقوي أسسه حتى لا يتم تكرار هذه العملية التي لولا التدخل الأمني بشكل استباقي.. لوقعت مأساة كبيرة المغرب في غنى عنها في الوقت الذي تضربه الكوارث الطبيعية الواحدة تلو الأخرى..

فهذه الاختلالات المجتمعية التي جعلت طفلا يفكر في ترك بلده ويهاجر.. هكذا، من ناحية علم الاجتماع، تعبر عما تناوله المفكر اللبناني مصطفى حجازي في كتابه سيكولوجية الإنسان المقهور من تحليل لبنية المجتمع من الناحية النفسية والاجتماعية، فـ الشخص المقهور في أي مجتمع هو ذاك الإنسان الذي يعيش حالة عجز، يجد نفسه في وضعية المغلوب على أمره، يشعر بفقدان الثقة ولا يستطيع إزاء قوى التسلط فعل أي شيء، فسرعان ما يتخلى عن التصدي منسحبا يائسا من إمكانية التغيير الفعال فيسقط في فخ التوقع والانتظار .. وهذا ينطبق على الإنسان بصفة عامة فما بالك بما كان يختلج في صدور أطفال قرروا ترك الوطن خلفهم، ذلك أن فقدانهم كل أمل في بلدهم وقبل ذلك في أسرهم، جعلهم غير آبهين بكل المخاطر التي قد تعترضهم، فحالة الفقدان.. فقدان وسائل العيش الكريم، فقدان السكن، فقدان الأسرة في حد ذاتها بالنسبة للبعض، ومن تم فقدان الحق في التعليم، وفي التطبيب، وغير ذلك من ضروريات الحياة.. كل هذا يجعل الإنسان يائسا وفي دواخله فراغ قاتل يجعله فريسة سهلة لذوي المخططات الهدامة.. هكذا لم يتوان أصحاب الدعوة إلى الهجرة بشكل جماعي لأنهم وجدوا الأرض خصبة، وهذا ما يتطلب بشكل فعلي مقاربة شاملة من جميع الفاعلين والمختصين كي لا تتكرر ظاهرة العقوق للوطن الأم، والظاهرة تتحول إلى أزمة والتخوف الكبير من أن يصبح حريك الأطفال ظاهرة مزمنة، لذلك فالأمر يستوجب إعادة النظر في ترميم المجتمع انطلاقا من أساسه، لأن مجتمعا قاعدته هشة حتما ستكون باقي طبقاته هشة، وإصلاح المجتمع يجب أن ينطلق من الاهتمام بالطفولة، وهناك من يقول أن هناك برامج ومنظمات وجمعيات تعنى بشؤون الطفل.. لكن من أين انطلقت هذه الفلتة التي ستبقى وصمة عار على جبين السياسات الحكومية التي لم تول عناية كبيرة للأسرة باعتبارها المنطلق الأول للطفل، وكذا المدرسة على اعتبارها مهد التعلم..

فقد أعادت محاولة هجرة قاصرين ضمن الهجرة الجماعية التي تمت التعبئة لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، إلى الأذهان أحداث ماي 2021، حين تمكن حوالي 10 آلاف شخص، من بينهم 1500 قاصر غير مرافق، من العبور إلى مدينة سبتة المحتلة، مع ما تبع ذلك من معاملات غير إنسانية من طرف الأمن المحلي للمدينة المحتلة تجاه هؤلاء القاصرين قبل ترحيلهم، وهو ما يؤكد انجرار القاصرين وراء تلك الدعوات دون وعي منهم بالعواقب.. ففكرة الهجرة لدى القاصرين تنتج عن وضعية الهشاشة العميقة التي يعيشها هؤلاء الأطفال في أسرهم، أو في الشارع إن كانوا في وضعية أطفال شوارع، وبالتالي فالدوافع إلى هذه الظاهرة مركبة تتداخل فيها عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية، في ظل غياب دور الأسرة والمدرسة وترك الباب مفتوحا لاختمار مثل هذه الأفكار في الوعي الفتي لدى الطفل، وما إن يتلقفه سماسرة الأزمات حتى يصبح أداة طيعة يسهل انصياعه وانقياده أو انجرافه وراء التيار دون التفكير في العواقب، وما دام الطفل ابن بيئته، فهو يتمثل الهشاشة التي يعيشها المجتمع، يرتوي بما تعيشه أسرته من فقر وحرمان وبؤس، يتفتح عقله على المشاكل التي تعاني منها الأسرة، وكل هذه الأمور تغذيها عدم قدرة الأبوين على تمدرس الابن أو انقطاعه عن الدراسة لسبب من الأسباب، ليجد الطفل حضن الشارع في استقباله، هذا دون أن ننسى دور المدرسة في تعليم وترسيخ مجموعة من المبادئ لدى الطفل حتى يتحصن من كل ما من شأنه أن يزيغ به عن السكة الصحيحة.

فالهجرة عموما ترتبط بالسؤال الاقتصادي بالدرجة الأولى، لكن عندما تصبح الهجرة من طرف الأطفال، فالموضوع يؤكد وجود أزمة نفسية واجتماعية واقتصادية في نفس الوقت لدى شريحة كبيرة من المجتمع المغربي، وهي تعكس مدى اليأس والإحباط لدى من قرروا الهجرة إلى المجهول، بوعي أو دون وعي بما ينتظرهم هناك ما وراء البحار من تحديات ومعيقات، وبالتالي، فهذه الهجرة الجماعية من طرف القاصرين تسائل السياسات الحكومية المتعاقبة، وتوجه للبرامج الحكومية إنذارا حقيقيا بوجود خطر مجتمعي يستدعي الوقوف عليه بكل الجدية اللازمة ومعالجته من جذور المشكلة ولا نقول استئصاله فهذا يتطلب وقتا طويلا لأن الأزمة باتت مستشرية بكل كبير.

وتطرح رغبة القاصرين في الهجرة إشكالية فشل المجتمع في احتضان أطفاله، وفشل منظومة التربية والتكوين في تحصين الطفل من الانقياد وراء الأفكار السلبية، وفشل المؤسسات المعنية في توفير الأمان للطفل، إضافة إلى فشل الأسرة قبل كل شيء، هذا إضافة إلى ترك وسائل التواصل الاجتماعي مشرعة أمام الأطفال حتى سلبت طفولتهم وعملت على تغذية عقولهم الصغيرة بالعقوق تجاه الوطن وتركه هكذا دون أن يأبهوا لما ينتظرهم في بلدان أخرى، مما يطرح مجموعة من التساؤلات: ما الذي ينمي في الطفل الاستعداد المسبق للمغامرة وترك أسرته وبلده؟ ما الذي يحمل الطفل على كره وطنه حتى يغادره في جنح الظلام؟ ماذا لو نجحت عملية الهجرة الجماعية سباحة وغرق هؤلاء الأطفال في عرض البحر؟ ألن يتم تقييم تلك الهجرة على أنها انتحار جماعي لأطفال مغاربة هربا من الجحيم أو ما شابه ذلك من الاصطلاحات التي تطلقها المنظمات والجهات المعادية للمغرب؟ ماذا لو نجحت تلك الهجرة بالشكل الذي كان مقررا لها، ألن تتبعها دعوات أخرى وهجرات أخرى في ظل السخط المجتمعي مقابل تدهور مستوى المعيشة لدى فئات عريضة من المغاربة؟

هذه الأسئلة وأخرى تتبادر إلى الأذهان منذ تلك الليلة الموعودة التي لولا اليقظة الأمنية لوقعت الكارثة التي لا ولن تحمد عقباها.. فماذا عن دور الحكومة بكل قطاعاتها؟ وماذا عن دور المجتمع المدني ودور الجمعيات الثقافية في تأطير المجتمع ؟

لقد ضربت هجرة الأطفال أو حتى مجرد التفكير فيها في العمق مجال التربية والتكوين الذي أبان عن اختلالات عميقة في المجتمع المغربي، والأزمة ليست وليدة اليوم، بل هذه فقط نتائج ما يعيشه المجتمع من تفكك أسري وانحلال خلقي منذ مدة ليست بالقصيرة، واستفحال تعاطي المخدرات بكل أصنافها ومن قبل شرائح مختلفة، كان له الدور الكبير في الوضعية التي يعيشها المجتمع، وخاصة الشباب والمراهقين، الذي يصبحون أداة طيعة أمام كل الأفكار الدخيلة واللوبيات التي همها فقط العمل على تخريب المجتمعات، وهذا طبعا لا يتم إلا من خلال ضرب منظومتين أساسيتين في تحصين أبنائنا من الجنوح عن الطريق المستقيم، ألا وهما التربية والتكوين، أي مبادئ التربية والأخلاق التي يتم تلقيها في الأسرة أولا، ثم التعليم لترسيخ تلك المبادئ في عقلية الأطفال حتى لا يصلوا لفترة المراهقة وهم على استعداد للعصيان والتمرد على الأسرة والمجتمع، ومن ثم الوطن الأم، وهذا كله طبعا ناتج عن الأزمة الاقتصادية التي يعيشها المغاربة منذ عقود، والتي وصلت بالأغلبية الساحقة إلى الباب المسدود بعد انغلاق سبل العيش أمامهم في ظل استشراء الغلاء في كل شيء.. وعدم وضوح الرؤية من طرف الحكومة في إيجاد حلول لهذه المشاكل التي يؤدي تراكمها طبعا إلى تعقيد الأمور، وهو ما ولد لدى هؤلاء القاصرين الذين قرروا الرحيل عن أسرهم وعن وطنهم.. الشعور بالامتعاض وانعدام الأمان وهم يقولون في قرارة أنفسهم ما عندنا ما نخسروا.. كما يقول المثل المغربي.

وهكذا.. فكل هذه المشاكل سببها الأول والأخير فشل منظومة التربية والتعليم التي اتجهت في بلادنا منذ عقود نحو اعتماد التعليم الخصوصي، وهو ما يعني تكريس الطبقية في تعليم أبناء المغرب، والكل يعرف المشاكل التي يتخبط فيها القطاع وأثر ذلك على تكوين التلاميذ تكوينا صحيحا يمكنه تحصينهم مما من شأنه أن يزيغ بهم عن السكة الصحيحة ويذكي في عقولهم كره الوطن، لأن فكرة هجرة أطفال مكانهم في البيت وفي المدرسة، هي وليدة الكراهية تجاه كل من لم يقدم لهم الإحساس بالأمان ويوفر لهم العيش الكريم.. لهذا يجب أن تنصب السياسات الحكومية، سواء الحالية أو التي ستأتي بعدها، على العمل على احتواء الأطفال فهم عماد المجتمع وبنيانه إذا كان هذا البنيان واقفا على قاعدة صلبة كان أساس المجتمع صلبا، وإذا كان أساس المجتمع هشا كانت النتيجة كما رآها العالم أجمع: هروب أهم فئة إلى المجهول.

google-playkhamsatmostaqltradent