تباينت تعليقات خبراء وباحثين في الشأن التربوي بشأن إمكانية التعويل على مدارس/مراكز الفرصة الثانية (E2C) المفوض تسييرها وتدبيرها لجمعيات المجتمع المدني، لمحاربة ظاهرة الهدر المدرسي التي مازالت تؤرق المملكة المغربية؛ إذ ينقطع سنوياً عن مقاعد الدراسة بمؤسساتها التعليمية الابتدائية والإعدادية والتأهيلية ما يصل إلى 300 ألف تلميذ وتلميذة.
ويذهب بعض الخبراء الذين تحدثوا لجريدة هسبريس الإلكترونية إلى أن المعطيات والأرقام التي كشف عنها وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، أخيرا، بشأن حصيلة هذه المراكز “إيجابية ومهمة؛ وهي ثمرة للمستجدات التي جاءت بها هذه المدارس، لاسيما مزاوجتها بين التأهيل الدراسي والتكوين والتدريب في حرف ومهن عديدة لتمكين المستفيدين من ولوج سوق الشغل، وتوفيرها منحا سنوية مشجعة”، متمسكين “بأهمية تطويرها لتعزيز دورها في محاربة الهدر المدرسي، لاسيما من خلال تجويد المناهج الدراسية، وتوفير الأطر المختصة في التربية غير النظامية، وتيسير ولوج الخريجين إلى التكوين المهني من خلال اعتماد التمكن من المهارات والكفاءات كشرط لذلك، عوض شرط التوفر على مستوى إشهادي معيّن، الذي يقصي نسبة مهمة منهم”.
وقال الوزير خلال مشاركته في الندوة الوطنية لشبكة جمعيات مدارس الفرصة الثانية، التي أقيمت الخميس الماضي، إن “عدد مدارس الفرصة الثانية الجيل الجديد وصل إلى 232 مركزاً، تضم خلال السنة الحالية ما يقارب 18 ألف مستفيد ومستفيدة”، وأن “نسبة الاندماج بين خريجيها وصلت إلى 72 في المائة من مجموع المسجلين بها خلال الموسم الدراسي 2022/2023″، وموضحاً أن “16% من هؤلاء جرى إدماجهم بمدارس التعليم النظامي و21% بالتكوين المهني و35% بالحياة العملية، أي سوق الشغل”.
غير أن هذه الأرقام “غير مُرضية وتؤكد عدم قدرة هذه المراكز على امتصاص جميع المنقطعين عن الدراسة”، بالنسبة لباحثين وخبراء تربويين آخرين، يؤكدون “وجوب النظر إلى مدارس الفرصة الثانية كعلاج مؤقت فقط، في أفق القطع معها في المدى الطويل كما سبق أن أكدت على ذلك الرؤية الإستراتيجية للإصلاح”، لافتين إلى أن “النسب المرتفعة للهدر المدرسي هي نتيجة لأزمة التعليم النظامي العمومي، وعليه فإن الحد منها يستوجب إصلاح هذا التعليم من خلال تجويد المناهج الدراسية وضمان تكافؤ الفرص”.
مكتسبات وإكراهات
محمد الزعري، أكاديمي ومدير عام مؤسسة زاكورة للتربية، ذكر أن “مدارس الفرصة الثانية تم إنشاؤها لتتدارك بعض نقاط الضعف التي شابت برنامج التربية غير النظامية، وفق ملاحظات المشاركين والمتدخلين في هذا البرنامج، الذي بصم عموماً على معطيات وأرقام مُرضية لعدد الذين لم يسبق لهم أن التحقوا بمقاعد الدراسة أو المنقطعين عنها الذين جرى إدماجهم في التعليم النظامي من جديد”.
وسجل الزعري،، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “هذه المدارس جاءت بمجموعة من المستجدات، أهمها المزاوجة بين تدريس المواد الدراسية والتكوين في حرف ومهن لتمكين المستفيدين من الاندماج في سوق الشغل، وتوسيع الفئة العمرية المستهدفة لتشمل الشباب الذين يبلغون من العمر 20 سنة، وكذا الرفع من قيمة المنحة السنوية إلى 5000 درهم؛ فضلاً عن وجود نظام للتتبع والتقييم المستمر لهذا البرنامج من لدن مديرية التربية غير النظامية”.
“بفضل هذه المستجدات تمكنت مدارس الفرصة الثانية من تحقيق مكتسبات مهمة ونتائج جد إيجابية على مستوى عدد المستفيدين الذين تمكنوا من العودة إلى مقاعد الدراسة في التعليم النظامي، وكذا من تمكنوا من الولوج إلى تخصصات حيوية بالتكوين المهني؛ فضلاً عن أولئك الذين تمكنوا من الاندماج في سوق الشغل، إذ بات عدد كبير من المستفيدين يتمكنون من الاشتغال كمقاولين ذاتيين في مجالات عديدة، وفتح مخابز ومحلات للحلاقة وغيرها”، يضيف الأكاديمي ذاته.
في المقابل لفت المصرح لهسبريس إلى “وجوب قيام الوزارة الوصية بمجموعة من الإجراءات لتجويد برنامج الفرصة غير النظامية، ومواجهة الإكراهات التي تواجهه، على رأسها توفير شعب للتكوين في مهن التربية غير النظامية، ولما لا معاهد متخصصة، بالنظر إلى أننا نشكو خصاصاً مهولاً في الأطر المتخصصة في هذه المهن؛ وحتى المتخرجون من المعهد الوطني للعمل الاجتماعي يبقى عددهم ضئيلاً وغير كافٍ لسد هذا الخصاص”، مردفا بأن “الإجراء الثاني يتمثل في تجويد الإطار المنهجي لهذا البرنامج ليستدمج تكوين المستفيدين في المهارات والكفاءات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي؛ إضافة إلى الإجراء الثالث المتمثل في إحداث لجان من طرف التكوين المهني للمصادقة على المهارات والكفاءات لدى خريجي البرنامج، بالنظر إلى أن عدداً منهم يكتسبون خلال فترة دراستهم بمدارس الفرصة الثانية معارف وقدرات تؤهلهم لولوج إحدى شعب هذا التكوين؛ إلا أنه يتم إقصاؤهم بحجة عدم التوفر على شهادة الدروس الابتدائية أو الإعدادية”.
وثمّن المتحدث ذاته “ثقة الوزارة الوصية في قدرة جمعيات المجتمع المدني على تدبير مجالات مهمة، كمجال التربية غير النظامية ومجال محاربة الأمية وغيرها؛ غير أنه مازال يتعين عليها تقوية قدرات هذه الجمعيات الشريكة مع مديرية التربية غير النظامية ومساعدتها على التمأسس أكثر”، بتعبيره.
النتائج في الميزان
سجل عبد الناصر ناجي، الخبير التربوي، أن “مدارس الفرصة الثانية جاءت لتتدارك فشل المنظومة التربوية المغربية التي ينقطع من مدارسها النظامية ما يصل إلى 300 ألف تلميذ سنوياً، دون أن يصل أغلبهم إلى سن نهاية التعليم الإلزامي”، مسجلاً أن “الرؤية الإستراتيجية للإصلاح نبّهت إلى ضرورة القطع مع مدارس الفرصة الثانية على المدى الطويل، بالنظر إلى أن اجتثاث الهدر المدرسي هو مسؤولية المدرسة النظامية بالدرجة الأولى”.
وأوضح ناجي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “أرقام خريجي هذه المدارس الذين تمكنوا من العودة إلى التعليم النظامي أو الالتحاق بمعاهد التكوين المهني أو ولوج سوق الشغل مهمة ومُثمّنة، غير أنها لا تخفي حقيقة أن هذه المدارس غير مؤهلة وقادرة على معالجة ظاهرة الهدر المدرسي؛ فعدد المتمدرسين بها سنوياً لا يكاد يتخطى 20 ألفا سنوياً، وهو رقم ضئيل جداً مقارنة بعدد المنقطعين عن الدراسة، سالف الذكر”.
وشدد رئيس مؤسسة “أماكن لجودة التربية والتعليم” أن “تحدياً آخر يعوق نجاح مدارس الفرصة الثانية، هو تفويض تسييرها وتدبيرها لجمعيات المجتمع المدني؛ ذلك أن المجال التربوي متخصص وجد معقد، وعدد قليل من الجمعيات تستطيع أن تعطي قيمة مضافة فيه”، لافتاً إلى “وجوب انتباه الوزارة إلى أن إعادة هؤلاء المنقطعين عن الدراسة مسؤولية المدارس النظامية أساساً، على اعتبار أنها هي التي تتسبب في هذا الانقطاع”.
وأوضح الخبير ذاته أن “هناك بالفعل مديرية للتربية غير النظامية بالوزارة تشرف على هذا المجال، لكن تفويض تدبير مدارس الفرصة الثانية للمجتمع المدني ينبغي إعادة النظر فيه؛ وأن يصبح إداريو وأطر المدرسة النظامية هم الذين يشرفون على هذه المدارس”.
“علاج مؤقت”
خالد الصمدي، خبير تربوي وكاتب الدولة للتعليم العالي سابقاً، قال إن “مدارس الفرصة الثانية مهما بذلت من مجهودات لتحسين أدائها ومردوديتها ستبقى بمثابة علاج مؤقت فقط لأزمة الهدر المدرسي، التي تحتاج حلاً جذرياً من خلال ثلاثة مداخل أساسية؛ الأول تجويد البرامج والمناهج الدراسية، والثاني ضمان تكافؤ الفرص في التمدرس، إذ مازال المغرب يشهد فجوة واسعة بين العالم القروي والحضري في هذا الجانب؛ أما الثالث فيتمثل في إعادة حزم الدعم الاجتماعي للتمدرس، فبالنظر إلى توقيف برنامج تيسير ومليون محفظة يتوقع أن ترتفع من جديد أعداد المنقطعين عن الدراسة”.
وأضاف الصمدي، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أنه “قبل تقييم مدى نجاح مدارس الفرصة الثانية في معالجة إشكالية الهدر المدرسي يجب أن نلفت الانتباه إلى أن نسبة مهمة من التلاميذ المغاربة يستفيدون من فرصة ثانية داخل المدارس النظامية، تتمثل في تمكينهم من دراسة السنة الثالثة في مستوى معين بموجب الاستعطاف الذي يستفيدون منه بعد تكرار سنتين”، مورداً أنه “لولا هذا الاستعطاف لكانت أعداد المنقطعين عن الدراسة ضعف الرقم الحالي المتمثل في 300 ألف سنوياً”.
وسجل كاتب الدولة للتعليم العالي سابقاً أن “عدد التلاميذ الذين يستفيدون من هذه المدارس يبقى ضعيفاً، إذ لا يكاد يمثل 10 في المائة من مجموع المنقطعين عن الدراسة، وحتى هؤلاء المستفيدون لا يكاد يعود منهم إلى مقاعد الدراسة غير النظامية سوى 16 في المائة؛ وهو مؤشر غير مطمئن بتاتاً”، موضحاً أن “العدد المتبقي من الخريجين، خصوصاً الذين يذهبون إلى الحياة العملية، ينضافون في الغالب إلى الأميين بالمغرب، إلى جانب أكثر من 280 ألف منقطع عن الدراسة الذين لا تستوعبهم مدارس الفرصة الثانية؛ ما يساهم في تفاقم معضلة الأمية التي يبذل المغرب جهوداً كبيرة لمحاربتها، وكذا في تدني ترتيب المغرب ضمن مؤشر التنمية البشرية”، وزاد: “لهذا نشدد على أن هذه المدارس يجب أن يتم التفكير فيها فقط كعلاج مؤقت، ويجب أن نجتث الهدر المدرسي من خلال المداخل سالفة الذكر”.