مع توالي التقييمات الدولية السلبية حول جودة التعلمات بالمدرسة المغربية، يعود النقاش حول جدوى الإصلاحات الهيكلية المتوالية التي تضعها وزارة التربية الوطنية لوضع التعليم المغربي في سكته الصحيحة وآخرها ما يسمى بمدارس الريادة، والتي يُراهن عليها لإصلاح التعليم العمومي.
عبد الرحيم كلموني، مفتش تربوي وخبير في المجال التعليمي، اعتبر، في حوار مع جريدة مدار21 الالكترونية، أنه من الصعب تقييم هذه التجربة في الوقت الراهن ومعرفة مدى تأثيرها على تحسين التعلم والارتقاء به وتصويب الأعطاب الحادة والمزمنة للمدرسة المغربية، وتحسين الترتيب الدولي في مكاسب التلاميذ المعرفية والمهارية.
ومن ضمن ما اعتبره الخبير التربوي إشكالا عميقا في المنظومة التعليمية المغربية هو ضعف الانسجام والتكامل بين مكوناته ومراحله وأسلاكه، إذ إن المراجعات و الإصلاحات التي شهدتها المناهج الدراسية غالبا ما كانت تتم وكأن الأسلاك التعليمية مستقلة عن بعضها.
وفي ما يلي نص الحوار كاملا:
صدر في الأسبوع الماضي تقييم دولي TIMSS 2023 حول مستوى تلاميذ الرابع إبتدائي والثاني إعدادي في مادة الرياضيات والعلوم والذي كانت أغلب أرقامه سلبية، كيف تقرؤون هذه الأرقام؟
ما ورد في دراسة تيمس لتقييم التعلمات في العلوم والرياضيات TIMSS 2023 يكشف بوضوح عن تراجع جديد ومقلق لمستوى تحكم التلاميذ المغاربة في المادتين بالمستوى الثاني الإعدادي (السنة الثامنة) مقارنة بالدورات السابقة فيما أظهرت تقدماً طفيفاً في التعليم الابتدائي، دون أن يتحقق أي تحسن في الترتيب إذ ظل المغرب يراوح مكانه في ذيل الترتيب، إما على بعد مرتبتين، كما هو الحال في التعليم الابتدائي، أو في مؤخرة الترتيب تماما كما حصل في الإعدادي. ويأتي ذلك نتيجة احتدام المنافسة بين الدول المشاركة واستثمارها المتزايد في الميدان التعليمي.
ما أثار انتباهي بصراحة هو تراجع المغرب بـ67 نقطة في تقييم العلوم للمستوى الثاني الإعدادي مقارنة بالدورات السابقة، وهي أسوأ نتيجة يسجلها المغرب منذ أكثر من عقدين. هذا فضلا عن أن نسبة التلاميذ المتحكمين في الكفايات الدنيا في العلوم تراجع من 48 في المئة إلى 18 في المئة فقط، وهي أدنى نسبة مسجلة بين الدول المشاركة، وأدنى إنجاز للمغرب في تاريخ مشاركاته في هذه الدراسة.
وعلى الرغم من أن التقدم الذي أحرزه المغرب في نتائج التعليم الابتدائي بـ 16 نقطة في مادة العلوم (390ن) وبـ10 نقط في الرياضيات (393ن) لا يشكل إنجازا يعتد به في ظل هذه المنافسة الشرسة بين الدول المشاركة، لأن المعدل المسجل ما يزال بعيدا عن المعدل الدولي (500ن) ولم يؤثر على الترتيب، فإن التراجع المسجل بالمستوى الثاني الإعدادي مقلق للغاية.
ما الذي يفسر، في نظركم، ارتفاع المعدل الوطني في السلك الابتدائي بـ 9 نقاط مقابل تراجعه في الإعدادي سواء في الرياضيات أو العلوم؟
يمكن تفسير هذا الاختلاف بين نتائج السلكين من عدة مداخل، أولها مسألة مراجعة المنهاج الدراسي، حيث شهد منهاج الابتدائي مراجعة خلال السنوات الأخيرة فيما ظل منهاج التعليم الإعدادي بدون أي إصلاح أو مراجعة منذ أكثر من عقدين من الزمن. وقد تكون هذه المراجعة قد أثرت، بطريقة إيجابية نسبيا، على التعلمات وتجسدت في التقدم الطفيف المسجل في نتائج هذا التقييم الدولي.
ثاني الأسباب في نظري، هي المشكلة اللغوية من خلال تراجع مستوى تحصيل التلاميذ في العلوم بـ67 نقطة وهو أمر جد مقلق فيما تراجع مستوى تحصيل الرياضيات بـ 10 نقط. ويمكن تفسير هذا الفارق في درجة التراجع بين المادتين باعتماد اللغة الفرنسية لغة للتدريس في المادتين معا، ولكن بالنظر إلى أن تدريس العلوم أكثر تطلبا من الناحية اللغوية من الرياضيات. فلاعتماد الفرنسية في تدريس المواد العلمية انعكاسات وخيمة ومقلقة على التعلمات في الحال والاستقبال لتدني مستوى التلاميذ في هذا اللغة إلى حد إعاقة فهم سؤال أو تعليمة في اختبار مثلا.
تنامي مستوى التطلب بين السلكين في كل المواد وخاصة العلوم والرياضيات، هو مبرر آخر، فتدريس العلوم في الابتدائي لا يتعدى مستوى التفتح بواسطة الأوليات والمعارف البسيطة بعيدا عن التخصص، خلاف السلك الإعدادي حيث تتخذ المعارف العلمية بعدا أكثر تخصصا، ويضاف إلى ذلك عائق اللغة المشار إليه آنفا.
ولا ننسى أيضا في هذا الجانب تداعيات جائحة كوفيد 19، فمن المعلوم أن المغرب -كغيره من دول العالم- شهد ابتداء من مستهل 2020 انتشار جائحة كورونا مما استدعى تدابير وإجراءات احترازية كان من أهمها إغلاق المدارس في الثلث الأخير من السنة الدراسية 2019-2020 واعتماد نمط تعليمي عن بعد عانى من جملة من النواقص والاختلالات. واستمرت هذه الإجراءات مع تخفيف ملموس في الموسم الدراسي الموالي 2020-2021. وقد تأثرت التعلمات بدون شك بالإجراءات المعتمدة لمواجهة الجائحة والعينة التي اجتازت اختبارات تيمس TIMSS 2023 من تلاميذ السنة الثانية الإعدادية، كانت حينئذ في القسم السادس الابتدائي مع ما رافق ذلك من إجراءات وتدابير قلصت زمن التعلم وتسببت في اختلال عمليات التقويم والدعم. والمؤسف هو أن جائحة كورونا تلتها أزمة أخرى ألحقت ضررا كبيرا بزمن التعليم والتعلم وتتعلق بإضراب المدرسين لعدة أشهر.
ألا يمكن أن نعتبر أن هذه المفارقة دليل على عدم تكامل وانسجام رؤى إصلاح المدرسة العمومية بين الأسلاك التعليمية؟
من المعلوم أن النظام التعليمي المغربي عانى على الدوام من ضعف الانسجام والتكامل بين مكوناته ومراحله وأسلاكه، إذ إن المراجعات و الإصلاحات التي شهدتها المناهج الدراسية غالبا ما كانت تتم وكأن الأسلاك التعليمية مستقلة عن بعضها. فاللجان التي تكلف بوضع تصورات المقررات والبرامج الدراسية تشتغل على عجل، وبمعزل عن بعضها البعض، كما حصل في المراجعة التي تمت في مستهل الألفية الثالثة على ضوء توجيهات الميثاق الوطني للتربية والتكوين .
هذا الأمر ينتج برامج دراسية تغيب عنها الرؤية المنهاجية الشاملة، المنسجمة والمتماسكة. وقد صار هذا سلوكا معتادا في المغرب، فمراجعة برامج التعليم الابتدائي التي تمت، منذ سنوات، وقبل إرساء اللجنة الدائمة لتجديد وملاءمة المناهج والبرامج، للأسف، أشارت إلى التقييمات الدولية التي يشارك فيها المغرب، ولكنها لم تضع تصورات كافية وناجعة لملاءمة المناهج الدراسية مع متطلبات ما يمكن نعته بـ المنهاج الكوني الذي يعتمده خبراء الدراسات التقويمية الدولية (بيرلز-تيمس- بيزا) التي تختبر مستوى الكفايات التعليمية-التعلمية، وخاصة الكفايات العليا منها، وتقدم بناء على ذلك بيانات ومعطيات صالحة للاستثمار في إصلاح اختلالات المنظومات التعليمية في الدول المشاركة.
وبالرجوع إلى نتائج تيمس 2023 نلاحظ، ببالغ الأسف، تراجعا مقلقا للغاية لنسبة تلاميذ الإعدادي الذين حققوا الحد الأدنى من الكفايات العلمية إذ انخفضت من 48 في المئة في 2019 إلى 18 في المئة في 2023، مما يعني إخفاق الغالبية الساحقة من تلامذتنا أي 82% في اكتساب التعلمات المفترضة في حدها الأدنى. وهي أعلى نسبة إخفاق في مجموع الدول المشاركة، وتشكل تراجعا كارثيا للمغرب على مدى كل الدورات السابقة.
إلى ماذا يمكن أن يؤدي تراجع مستوى التلاميذ في المواد العلمية، وهل يمكن تصحيح هذه الأعطاب في مستويات مقبلة؟
في الحقيقة لا ينحصر التراجع في مواد العلوم والرياضيات، بل يمتد كذلك لمادة القراءة وفهم الأسناد المكتوبة. فقد احتل المغرب المرتبة ما قبل الأخيرة في الدورة الخامسة من الدراسة الدولية لاختبار التقدم في القراءة بيرلز PIRLS 2021 الذي تشرف عليه نفس الهيئة المنظمة لدراسة تيمس، مما يعني حقيقة راسخة ولا تزيدها الدراسات التقييمية إلا ترسيخا وهي عمق الاختلالات التعليمية المزمنة التي يعاني منها التعليم المغربي، على الرغم من تضخم الخطاب الإصلاحي التبشيري المغرق في التفاؤل منذ مطلع الألفية الثالثة. من المآلات المحزنة لهذا الوضع هو فشل الاستثمار في الثروة البشرية بواسطة التربية والتعليم، وهو الأمر الذي تتنافس فيه كل دول المعمور، والذي ستكون له عواقب وخيمة على مستقبل البلاد، خاصة تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030.
ونذكر هنا، على سبيل المقارنة والاستئناس فقط، المواقع المشرفة التي تحتلها المنظومات التربوية الآسيوية مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان والصين، ويمكن الإشادة هنا، كذلك، بالتقدم الباهر الذي حققته تركيا التي تقدمت على الكثير من دول أوروبا الغربية، وذلك، بدون أدنى شك، بفضل نجاعة الإصلاحات التعليمية وملاءمتها. ويمكن في هذا الصدد الاستفادة من تجارب هذه الدول في وضع استراتيجيات تقويمية وإصلاحية تحد من هذا التردي المقلق.
ويجدر التذكير هنا بتفعيل دور اللجنة الدائمة للمناهج لتجديد وملاءمة مناهج وبرامج وتكوينات مختلف مكونات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، والإسراع في وضع إطار مرجعي للمنهاج الدراسي المغربي برمته يتلاءم مع متطلبات التربية والتعليم في الألفية الثالثة التي تواكبها التقييمات الدولية، وكذا في صياغة دلائل مرجعية للبرامج والتكوينات خاصة تكوين الأساتذة بشطريه الأساسي والمستمر.
ذكرت الوزارة أنها تراهن على نموذج مدارس الريادة لتصويب هذه الأعطاب المنهجية والتحصيلية، إلى أي حد يمكن أن يساعد هذا النموذج الجديد من المدارس في تحقيق هذا الهدف؟
هذه النتائج المقلقة تثير التساؤل حول فعالية الإصلاحات المتوالية والمكلفة التي أطلقتها وزارة التربية الوطنية خلال العقد الأخير ونجاعتها في تحسين جودة التعليم وآخرها مباردة ما سمي بمؤسسات الريادة ، فمن الصعب تقييم هذه التجربة في الوقت الراهن ومعرفة مدى تأثيرها على تحسين التعلم والارتقاء به وتصويب الأعطاب الحادة والمزمنة للمدرسة المغربية، وتحسين الترتيب الدولي في مكاسب التلاميذ المعرفية والمهارية.
ولكن يبدو أن هذه المبادرة، التي تراهن على ضمان جودة التعليم والتعلم والإدارة والتدبير، وتحسين الوسط المدرسي، والرفع من مستوى التحكم في التعلمات، وتعزيز انفتاح التلاميذ، وكذا التقليص من نسب الهدر والانقطاع المدرسيين، كما هو مدبج في النصوص الرسمية المحدثة لها، يمكنها تحقيق- إذا كتب لها الاستمرار خلاف مبادرات سابقة تم إجهاضها- بعض المكاسب بخصوص الوسط المدرسي والإدارة والتدبير، وتقليص نسب الهدر والانقطاع المدرسيين، ولكن لا يبدو أنها قادرة على رفع تحدي جودة التعلمات والارتقاء بمستوى كفايات التلاميذ خاصة الكفايات العليا، إذ إن الفجوة الكبيرة بين أداء التلاميذ المغاربة وأقرانهم في الدول الأخرى تشير إلى الحاجة الملحة لإعادة النظر في الاستراتيجيات المتبعة، وفي مقدمتها تكوين المدرسين الذين بمقدورهم إحداث نقلة نوعية في الإصلاحات التربوية التي كانت تتبخر- للأسف الشديد- على عتبة الأقسام الدراسية.
فالمنهاج الدراسي الذي ينبغي مواءمته مع المستجدات البيداغوجية والديداكتيكية الكونية التي يعتمدها خبراء الدراسات الدولية في تقييم المنظومات التعليمية ضروري للإصلاح ولكنه لا يكفي لوحده بدون أستاذ كفء قادر على التكيف مع متغيرات الممارسة الصفية في ظل مجتمع تلاميذي سريع التغير وتحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية مربكة، وفي ظل تنافسية دولية شديدة لإحراز مراتب مشرفة في التربية والتكوين اللذين هما عماد كل تنمية بشرية حقيقية.
إن تكوين الأساتذة بالصورة الحالية ضعيف وغير ملائم ولا يستجيب للمعايير الدولية المشهود لها بالجودة كما تبين ذلك دراسة تيمس 2023. كما يتطلب الوضع توفير بيئة تعليمية داعمة مناسبة قصد الارتقاء بقدرات التلاميذ خاصة القدرات ذات المرقى الأعلى لجعلهم قادرين على مواجهة مختلف التحديات الراهنة والمقبلة.