كان يوم السبت 30 نونبر المنصرم موعدا لميلاد شعلة أمل لإعادة الروح في أجسام متهالكة وهي على شكل أمواج بشرية فاقت كل التوقعات، وتكبدت عناء التنقل من مدنها وقراها، وتجردت من ألقابها المهنية السابقة، ونفضت عنها يأس إصلاح أحوالها، وتخلت عن الاتكال على الأحزاب والنقابات واللجان الاجتماعية البرلمانية والجماعية، واتجهت إلى إحياء فيدراليات ووداديات وجمعيات تناضل من أجل المتقاعدين بدون تميز، وكانت أصواتهم من حناجر مبحوحة تخترق جدران البرلمان لإيصال معاناتهم وقهر معيشتهم، واستحالة التداوي من أمراض المهن التي شيدت الوطن وهيأته للأجيال اللاحقة، وعبدت لها طرقا آمنة وفي كل الميادين للسير عليها.
في تلك الأمواج البشرية، كانت الأيادي متشابكة بدون سابق معرفة وزخات العرق تضفي عليها حرارة التلاقي بين قدماء المسؤولين في الإدارات والمؤسسات والمصانع والمتاجر والمكاتب الوطنية والمدارس بكل أصنافها، والعمال والحرفيين إلخ، هذه الفسيفساء الفريدة التي يستحيل جمعها في أي لقاء آخر من مختلف الحواضر المغربية، نجح المتقاعدون وبصفة تلقائية في تكوينها لأول مرة.. متقاعدون جردتهم اللامبالاة من رتبهم وألقابهم المهنية، فالمدير والأستاذ والمهندس والطبيب والإطار والموظف والصانع والتاجر والسائق.. ذابت مع الإحالة على التقاعد، و رُشم كل منتسب إليه بـ متقاعد ، مثل الإنسان في حياته ينعت بصفات علمه وخدماته، وعند مماته والصلاة على جثمانه، ينادي الإمام بصلاة الجنازة على: رجل أو امرأة هكذا.. هو ذلك الذي يغادر الحياة المهنية، فلقد ابتدع له صندوق التقاعد صفة المتقاعد وجرده من ألقابه ورتبه وإبداعية حرفه، حتى أرقام تأجيره وتعاضديته تموت مع مهنته لتحل محلها أرقام جديدة، وهذا شبيه بما هو مطبق عند الموتى، فتسحب بطاقات تعريفهم وأرقامها لتمنح لهم أرقام تعريفية لقبورهم، وهذه هي الحقيقة المرة التي يتجرعها المتقاعدون بصفة عامة.
إقصاء غير عادل في إنعاش معاشاتهم التي لا تكفي حتى لاقتناء أدوية لأمراضهم بينما نظراؤهم في العالم يحظون بكل عناية ورعاية واحترام ومراجعة سنوية فيما يتقاضونه للعيش، وامتيازات عينية في تنقلاتهم وأسبقية في علاجهم وخدمات لامحدودة من مساعدين اجتماعيين خاصين لتأطيرهم ومؤازرتهم على شغل أوقاتهم، وقضاء حوائجهم الإدارية، فهؤلاء المساعدون مكلفون بإنجازها.
هذه هي رسالة المتقاعدين الأولى في حجم حضورهم يوم السبت الماضي، وسبحان الله جل الأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية يرأسها من هم متقاعدون، فلماذا لا ينقلون معاناة إخوانهم في السن إلى البرلمان ومنه إلى الحكومة، حتى يعفوا إخوانهم الشيوخ من عذاب التنقل والسفر إلى مقر البرلمان ؟