عاد الحديث من جديد في صفوف الرأي العام حول إصلاح صناديق التقاعد وسط جدل كبير حول خطة الحكومة لمباشرة هذا الإصلاح الذي يبقى محط خلاف كبير مع الفرقاء النقابيين، لا سيما وأنه يقدم رؤية أحادية رسمية تسعى الحكومة إلى فرضها على الموظفين والأجراء، مما يطرح تساؤلات عريضة حول مضامين هذا العرض المرتقب.
والغريب في الأمر أن الحكومة جمدت الحوار حول إصلاح صندوق التقاعد منذ سنة 2022، وعطلت المشاورات والحوار الاجتماعي بخصوصه خلال سنتي 2023 و2024، حيث انقطع التواصل مع جميع النقابات بخصوص هذا الملف الشائك، وتسعى إلى جعل التقاعد ملفا رئيسيا خلال السنة الجديدة دون أن تفتح ملف الأسباب الحقيقية وراء أزمة الصناديق (الصندوق المغربي للتقاعد، النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي)، المتمثلة في الاختلالات المالية، والمتابعات القضائية في حق المسؤولين عن تدبيرها خلال السنين الماضية.
إعداد: خالد الغازي
يبدو أن الحكومة لا تملك الشجاعة والإرادة السياسية الحقيقية لاسترجاع الأموال المنهوبة من صناديق التقاعد، والتي يتمتع بها اللصوص أمام أعين الدولة والسلطات رغم صدور أحكام قضائية في حقهم، إلى جانب غياب المساءلة والمحاسبة مع المسؤولين والمدراء السابقين لهذه الصناديق والذين يتحملون المسؤولية إلى جانب الدولة عن ضياع أموال التقاعد.
وحسب العديد من المختصين، فإن أزمة صناديق التقاعد ناتجة عن غياب الحكامة والجدية في تدبيرها من قبل الحكومات والدولة كمشغل للموظفين، لكونها لم تقم بأداء واجباتها المالية لفائدة الصناديق خلال فترة التسعينيات، مما أضاع على الصناديق العديد من الأموال المستحقة لفائدة الموظفين والمستخدمين، الأمر الذي يتطلب ضخ مساهمات الدولة التي لازالت في ذمتها لحل الأزمة.
في هذا الصدد، يرى الحسن المرضي، خبير في أنظمة التقاعد وعضو المجلس الإداري للصندوق المغربي للتقاعد، أن ملف التقاعد شائك ومعقد على مستوى الصناديق الأربعة، زيادة على مجموعة الصناديق الداخلية لدى المؤسسات، لأن كل حكومة تحاول تمرير الملف إلى أخرى، علما أن هذا الملف يتطلب جرأة سياسية وتحمل تكلفة الإصلاح، لأنه يلعب دورا كبيرا فيما يخص نتائج الانتخابات، مبرزا أن الإشكالية المطروحة حاليا فيما يخص الصندوق المغربي للتقاعد، أي نظام المعاشات المدنية، ليس وليد اليوم، بل هي سياسات حكومية متبعة منذ الستينات أو الثمانينات، ومنذ اعتماد قسم من وزارة المالية على تدبير مساهمات المتقاعدين، ولكن بعد صدور قانون 43-95 في سنة 1995، بطلب من منظمة العمل الدولية وصندوق النقد الدولي، قصد استدامة هذه الصناديق والشفافية، تبين أن الاحتياطات المالية لم تدبر بالشكل المطلوب ووفق الحكامة الجيدة، والحكومات لم تدفع مستحقات الموظفين للصندوق منذ تأسيسه، حيث منحت منذ بدايته فقط 5 ملايير درهم سنة 2007.
وكشف المرضي أن هناك العديد من الأسباب وراء أزمة صناديق التقاعد، من بينها اعتماد الخوصصة التي اقترحتها حكومة التسعينات، والتي أثرت على مداخيل الصندوق المغربي للتقاعد، ونهج التدبير المفوض، والمغادرة الطوعية في سنة 2005، والتي شملت 40 ألف موظف خرجوا واستفادوا من تعويضات وتوقفت مساهماتهم، والتهويل من قبل السياسيين لملف التقاعد، مما دفع أكثر من 10 آلاف موظف إلى طلب تقاعد نسبي خوفا من عدم الاستفادة من المعاش، وتراجع الحكومة عن إدماج أطر الأكاديميات في الوظيفة للاستفادة من مساهماتهم في صندوق التقاعد، ثم إصلاح 2016، الذي لازالت تأثيراته السلبية على الصندوق، لأن الإصلاح جاء مقياسيا فقط الزيادة في الاشتراكات بنسبة 4 في المائة، ثم رفع السن تقاعد إلى 62 سنة، واعتماد نسبة معدل 8 سنوات من الأجرة للإحالة على التقاعد، مطالبا بالحكامة الجيدة والتمثيلية المتوازنة للمنخرطين، واعتماد الانتخابات في المجالس الإدارية عوض مبدأ التعيين الذي ربما لا يقوم بالمهمة، عكس الانتخابات التي تتم وفق العملية الديمقراطية وتفرض على المرشح تحمل المسؤولية.
وشدد نفس المتحدث على أن الحوار الاجتماعي يجب أن يشمل مشاركة الجميع، بمن فيهم جمعيات المتقاعدين والنقابات الغير ممثلة وأعضاء الحكامة في إصلاح أنظمة التقاعد، ومباشرة حكامة جيدة داخل هذه الصناديق حفاظا على التوازنات المالية، والدفاع عن حقوق ومكتسبات المنخرطين في أي صندوق، منتقدا الطريقة التي يدبر بها الحوار الاجتماعي بين النقابات وأرباب العمل والحكومة، وما يروج حول اتفاق مبدئي ومقايضة لتمرير قانون الإضراب ومراجعة أنظمة التقاعد مقابل الزيادة في الأجور، داعيا إلى ترشيد المحفظة المالية لصناديق التقاعد، التي يجب أن تدبر بمردودية مرتفعة تركز على مشاريع مربحة لكي تعود بالربح، سواء على الصناديق أو المنخرطين أو المتقاعدين، مقترحا تنظيم مناظرة وطنية ثانية حول التقاعد بعد مناظرة 2002 التي نظمها إدريس جطو، قصد تحقيق مقاربة تشاركية للحفاظ على المكتسبات والتوازنات المالية لهذا الملف المعقد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتقنيا، من أجل خلق استدامة لهذه الصناديق.
بدوره، أكد عبد الإله دحمان، نائب الأمين العام للاتحاد الوطني للشغل، أن الحكومة بخصوص ملف التقاعد لم تكشف لحد الساعة عن المقترح الرسمي، سواء على مستوى المؤسسة الدستورية أو على مستوى الحوار الاجتماعي، أو في اللقاءات الثنائية التي تعقدها المركزيات النقابية مع وزارة الشغل، واليوم اعتمدت الحكومة على منهجية التصعيب ، وهذه المنهجية تساهم في توتير الساحة الاجتماعية أكثر مما تقدم وضوحا حول ملف له حساسيته، وبالتالي، نحن لازلنا نطالب بضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار الاجتماعي متعدد الأطراف، ونطرح سيناريوهات وخارطة الإصلاح، متسائلا عن الفلسفة الإصلاحية التي ستأتي بها الحكومة، وعن السيناريوهات المحتملة أو الوصفات الإصلاحية حتى نستطيع فتح نقاش عمومي مسؤول في شأنها، ونحاول تجويد المقتضيات المرتبطة به.
وأوضح دحمان، أن الاتحاد الوطني للشغل، من خلال مجلس المستشارين أو عبر اللقاءات، يعتبر أن أي وصفة مهما كان نوعها، لا يمكن أن تمس بالحقوق المكتسبة لدى الشغيلة والمتقاعدين، ولا يمكن قبول وصفة تتحمل تكاليفها الشغيلة المغربية، خصوصا وأنها تحملت عبء الإصلاحات السابقة التي اعتبرناها إصلاحات مقياسية، واليوم فإن أي إصلاح لابد أن تتوفر فيه هذه الشروط، ولا يكون على حساب مكتسبات الشغيلة، وأن يكون إصلاحا شموليا وليس تجزيئيا، ولا للحكومة أن تتبنى منهجية تشاركية في أي مشروع للإصلاح عبر طرحه على مستوى الحوار الاجتماعي متعدد الأطراف، وأن يفتح نقاش مجتمعي لأنه يهم الموظفين والمتقاعدين، ولابد أن تراعي عملية الإصلاح الظرفية والضغط الاجتماعي والاقتصادي الممارس على المواطنين، خصوصا الشغيلة النشيطة، مطالبا بالكشف عن خطة الحكومة للإصلاح وتجاوز منطق هيمنة الأغلبية لتمرير قوانينها، ونظرتها للإصلاح، مما قد يخلق المزيد من التوتر والاحتقان.
وقال دحمان، أن الحكومات السابقة كانت جبانة في طرح هذا الموضوع في بداية بروز الأزمة، وعندما جاءت حكومة بن كيران، توفرت لديها الجرأة، ولكنها قامت بإصلاح على حساب الشغيلة، وآنذاك قال رئيس الحكومة يمكن أن تتولى الحكومة بأربع نقاط من الإصلاح، في حين كانت هناك حسابات نقابية وسياسية مع حلول انتخابات 2016، ولم تتم الموافقة على مخرجات الحوار وتم الإجهاز على اتفاق اجتماعي كان يمكن أن يوقع مع الأيام الأخيرة من حكومة بن كيران، لهواجس انتخابية، معتبرا أن الحكومات السابقة لم تتحل بالجرأة لمعالجة الخلل في أنظمة التقاعد، بالرغم تشكيل لجنة وطنية ولجن تقنية وقيامها بسفريات والوقوف على تجارب المقارنة، لكن تم اعتماد المقاربة المقياسية، في حين كانت بعض المحاولات في فترة إدريس جطو عبارة عن بريكولاج ، وليس مقاربة مندمجة للإصلاح، وبالتالي، لا يمكن صرف الملايير اليوم على ورش الحماية الاجتماعية والقيام بوصفة إصلاحية لأنظمة التقاعد تكون مضرة للشغيلة والإجهاز على حقوقها.
من جانبه، اعتبر عبد الفتاح البغدادي، عضو لجنة الحوار حول إصلاح التقاعد عن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، أن خرجات الوزيرة نادية فتاح العلوي فيها تغليط للرأي العام، لأن الحكومة لم تتفاوض مع النقابات بخصوص إصلاح أنظمة التقاعد، وجمدت الاجتماعات منذ سنة 2022، وقدمت دراسة مثيرة للجدل أنجزتها شركة عليها علامة استفهام، وبعد ذلك لم يتم عقد أي اجتماع أو لقاء منذ سنة 2023 حتى اليوم، خرجوا يتحدثون عن الحوار والإصلاح، وهو كلام للاستهلاك الإعلامي فقط، مضيفا أن الحكومة تريد اتباع نفس الخطة الجهنمية التي قامت بها في قانون الإضراب الذي تم تمريره، ولا أحد يعلم العرض الحكومي والنوايا ومضامين المقترح الذي يظل في إطار الثالوث الملعون (الرفع إلى 65 سنة، الزيادة في الاقتطاعات، النقص من المعاشات، إضافة فرض النظام التكميلي)، والتسقيف مثل النظام الخاص المحدد منذ سنوات في 4200 درهم فقط للجميع.
وقال البغدادي، أن هناك العديد من المقترحات والأمور تثير الجدل وغير مقبولة، من بينها الرفع من سن التقاعد في القطاع الخاص من 60 سنة إلى 65 دون مبدأ التدريج (61-62)، بحيث لا يمكن إضافة خمس سنوات دفعة واحدة في القطاع، ثم يقال أن هناك عجزا ويتم رفع الموظفين إلى سن 70 سنة، رغم أن هناك حلولا يمكن الأخذ بها من خلال طرح سن إلزامي وما تبقى اختياري، لكنهم لا يقبلون به بدعوى صعوبة في التنفيذ، معتبرا أن الإشكال يكمن في التعامل مع ملف التقاعد بمنطق محاسباتي وأرقام، والمفروض أن ينظر إليه كقضية مجتمعية ويفتح نقاش وطني عمومي حوله، والدولة مطالبة بالمساهمة في صندوق التقاعد كمشغل وتسديد ما عليها من أموال منذ التسعينيات، واسترجاع أموال الضمان الاجتماعي بعد اعتقال المسؤولين والحكم عليهم.
وأكد نفس المتحدث على ضرورة تحديد الحد الأدنى للمعاشات في القطاع العام والخاص عوض أن يبقى 1500 درهم بالنسبة للقطاع العام، و1000 درهم و500 درهم و200 درهم للخاص، وحل هذا الإشكال بالحوار للرفع من الحد الأدنى في أفق خمس سنوات، وحل مشكلة الأرامل واقتطاع نصف معاش زوج المرأة الأرملة، إلى جانب معالجة ظاهرة عدم التصريح بالعمال لأن هناك ملايين المغاربة (حوالي 7 ملايين) غير مصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهناك بعض أرباب العمل يصرحون فقط بـ 13 يوما في الشهر للعمال وليس كامل أيام العمل، وبالتالي، لا يصل الأجير للحق في المعاش، متسائلا عن فرض التقاعد التكميلي بشكل إجباري في الدراسة ونظام اختياري، في حين تعجز الحكومة عن تطبيق النظام الأساسي على أرباب العمل.
وسبق للمجلس الأعلى للحسابات أن أصدر تقريرا يتناول خلاله الوضعية المقلقة التي يشهدها الصندوق المغربي للتقاعد، الذي يسجل تراجعا في أرصدته، مع عجز تقني بلغ 9.8 ملايير درهم سنة 2023، مشيرا إلى أنه من المتوقع أن تستنفد أرصدته في حدود سنة 2028، حسب معطيات وزارة الاقتصاد والمالية.
وكشف المجلس أن الصندوق المغربي للتقاعد سجل عجزا تقنيا بمبلغ 9.8 ملايير درهم عند نهاية 2023، منبها إلى تراجع في الأرصدة الاحتياطية للصندوق التي تبلغ 65.8 مليار درهم عند متم سنة 2023، ومن المتوقع أن تستنفد هذه الأرصدة في حدود سنة 2028.
وأوصى المجلس بتوسيع قاعدة المنخرطين في أنظمة التقاعد لتشمل الفئات غير المهيكلة، مثل العاملين في القطاع غير الرسمي والمهن الحرة، على أن يتم ذلك تدريجيا مع تقديم حوافز مغرية لضمان التزام هذه الفئات.
في هذا الصدد، سجل مرصد العمل الحكومي، أن ملف إصلاح التقاعد في المغرب يشكل أزمة معقدة تتطلب حلولا عاجلة ومستدامة، حيث يواجه نظام المعاشات المدنية خطر الإفلاس، مشيرا إلى أن استنفاد احتياطاته سيجبر الدولة على ضخ ما يقرب من 14 مليار درهم سنويا للحفاظ على استمرارية صرف المعاشات لفائدة المتقاعدين.
وأبرز المرصد أن الإصلاح المطروح من طرف الحكومة، يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية، هي: الزيادة في قيمة الاشتراكات، الرفع في سن التقاعد إلى 65 سنة، وخفض قيمة المعاشات، يعني أن الأجراء سيتحملون بشكل شبه كامل عبء تكاليف هذا الإصلاح، وهو ما أثار رفضا واسعا من النقابات التي ترى أن هذه الإجراءات ستؤدي إلى زيادة الأعباء المالية على العمال والموظفين، دون تقديم ضمانات كافية بشأن تحسين جودة التقاعد على المدى البعيد.