recent
آخر المواضيع

أكاديمية المملكة تُحوّل ذاكرة تعليمية إلى فضاء ثقافي نابض بالحياة


الذاكرةُ وصَدَاها.. من مدرسةٍ إلى مركب تنويري

في قلب حي المحيط بالرباط، تقف المدرسة الإقليمية شاهدة على لحظة مفصلية في تاريخ المغرب المستقل؛ فقد كانت من أولى المؤسسات التعليمية التي انبثقت في أعقاب الاستقلال عام 1956، لتضطلع بمهمة وطنية نبيلة: إعداد أجيال من المدرسين والمدرسات، نساء ورجال التربية، الذين شكلوا النواة الأولى لبناء المدرسة العمومية المغربية الحديثة. على أيدي شخصيات بارزة في مجال التربية والتعليم، كان لهذا الصرح دور محوري في تعميم التعليم وتوسيع أفق المعرفة، في زمن كان فيه التعليم أداة للتحرر والبناء المجتمعي. لم تكن المدرسة الإقليمية مجرد فضاء تلقين وتعلم، كانت مختبرا لصياغة مشروع مجتمعي يقوم على النهوض بالإنسان. وها هي اليوم، بعد عقود من العطاء، تستعد لمرحلة جديدة من عمرها، تتحول فيها من مؤسسة تعليمية إلى مركز إشعاع ثقافي، دون أن تغادر رسالتها الأصلية؛ بل تعيد تمثلها بلغة العصر، مُفعَمة بروح الاستمرارية والإبداع، عبر مشروع ثقافي رائد تتولى قيادته أكاديمية المملكة المغربية. يتمثل هذا المشروع في تحويل “المدرسة الإقليمية”، التي شكلت لعقود معقلا للمعرفة ومنارة للتكوين، إلى مُركب ثقافي وعلمي نابض بالحياة، يستلهم رسالته من ماضي المدرسة التربوي، ويمنحها امتدادا جديدا في الحاضر، من خلال فضاء يجمع بين الإبداع والفكر والتكوين. إنه بعثٌ للمعنى من عمق الجغرافيا والذاكرة، وتجسيدٌ لرؤية تجعل من الثقافة رافعة للتنمية، ومن التعليم فضاء للتجدد والانفتاح، ضمن مشروع يُعانق المستقبل دون أن يتنكر لجذوره.

لا يُعد تحويل “المدرسة الإقليمية” إلى مركب ثقافي مجرد انتقال وظيفي من التعليم إلى الثقافة بقدر ما هو استمرارية لرسالة تنويرية، تتجدد اليوم بأدوات العصر وأسئلته. لقد كانت المدرسة، بما احتضنته من أجيال متعاقبة من المتعلمين، أكثر من مجرد فضاء للتلقين؛ لقد كانت مجالا لتشكيل الوعي وبناء المواطن. وهي الوظيفة عينها التي ينهض بها المركب الثقافي؛ ولكن ضمن أفق أكثر رحابة، يعترف بتعدد المعارف، وتداخل الفنون والعلوم، وانفتاح وسائل التعلم على تجارب حية، تتجاوز حدود الصف والمقرر. لقد تغيّر السياق، وتبدلت طبيعة العلاقة بالمعرفة؛ لكن الحاجة إلى مؤسسات تُوقظ الأسئلة لم تَغِب، بل ازدادت إلحاحا، وهذا ما يُضفي على المشروع قيمته الثقافية والتربوية.

في ضوء ذلك، يُجسد هذا المشروع رؤية أكاديمية المملكة المغربية التي ظلت، منذ نشأتها، تُراهن على الفكر بوصفه أفقا للتجديد، وعلى الثقافة باعتبارها أداة للفهم والتواصل والنهضة؛ فالانتقال من المدرسة إلى المركب لا يعني الانفصال عن الوظيفة التعليمية، بقدر ما يسعى إلى تعميقها وتفكيك حدودها التقليدية، لجعلها أكثر اتساعا ومرونة. وبهذا المعنى، يصبح المركب الثقافي فضاء مفتوحا لتنمية القدرات، وتبادل الخبرات، وتكوين جيل جديد من الشباب، لا على مقاسات السوق فحسب، وإنما على مقاسات الوعي والجمال والمعرفة. إنه فضاء تُصاغ فيه الذات الحرة، وتُصان فيه الذاكرة، ويُكتب فيه مستقبل ثقافي تُشارك فيه المدينةُ بعزيمة أبنائها.

ذاكرة تتحول.. من جدران التعلم إلى فضاء الثقافة الحُرة

ليس عبثا أن يُطلق على هذا المشروع اسم “Agora”، فالاسم يتعلق بفضاء مركزي في المدينة الإغريقية القديمة، حيث لم يكن مجرد ساحة عمومية، وإنما مركزا حيا للتفكير والنقاش وتبادل الرؤى، ومكانا تتفاعل فيه الفلسفة، مع الفن، والحياة اليومية. في قلب الأغورا، كان المواطن يتحرر بالكلمة، ويشارك في صناعة المعنى، ويصوغ ملامح المدينة الفكرية.

بهذا المعنى، تستدعي أكاديمية المملكة المغربية هذا البعد الحضاري العميق بوصفه استئنافا لدور أصيل في ثقافتنا العربية الإسلامية أيضا، حيث كان “المسجد الجامع”، أو “الرباط”، أو “المجلس”، فضاء جامعا للدرس والحوار والمعرفة الحرة. من هنا، تتحول “الأغورا” إلى رمز ثقافي جديد لمكان تُصاغ فيه أسئلة الراهن، وتتجدد فيه علاقة المجتمع بثقافته.

مدرسة تتحول.. والتاريخ يتنفس من جديد

ليس هذا التحول مجرد ترميم لمبنى أو تغيير لوظيفة، إنه استمرار لرسالة تنويرية عريقة، تستمد مشروعيتها من ذاكرة المدرسة بوصفها مؤسسة حاضنة للعلم، تمنحها أفقا جديدا مفتوحا للإبداع والمعرفة والانفتاح. يرمز الاسم الذي يحمله المشروع إلى “الساحة العمومية” أو “الفضاء المشترك” ويستدعي فكرة المشاركة الفكرية والتداول الثقافي، حيث تتحول المدرسة إلى منبر مفتوح للحوار، ومختبر حي للتجريب الفني والتكوين الثقافي، والابتكار التقني.

وعلى هذا النحو، لا يُمثل تحويل المدرسة الإقليمية إلى مركب ثقافي قطيعة مع الماضي، بقدر ما يُجسد امتدادا حيا لرسالته، في سياق جديد تُعاد فيه صياغة الوظيفة التربوية بما يواكب تحولات العصر؛ فالمكان، الذي كان يوما حاضنا للمعرفة في صورتها التقليدية، يُبعث اليوم من جديد ليؤدي الدور ذاته، لكن بأدوات أكثر تنوعا، ورؤية أكثر انفتاحا، تراهن على الإبداع بوصفه شكلا من أشكال التعلم، وعلى الثقافة باعتبارها مجالا حيويا لبناء الذات والمجتمع. يأتي هذا التحول ترجمة عملية لفلسفة تُؤمن بأن التعلم لم يعد حكرا على القاعات المغلقة والمناهج الصارمة، بل بات فعلا منفتحا، يتشكل عبر التجربة والمشاركة والخَلق الجماعي.

وفي هذا الإطار، يتيح مشروع أكاديمية المملكة المغربية برامج تكوينية متعددة التخصصات، تُوجه بالأساس إلى فئة الشباب، وتتوزع بين الفنون التشكيلية والمسرح والسينما والموسيقى والصناعات الثقافية والابتكار التكنولوجي، في تناغم دقيق بين التعبير الفني والمعرفة التقنية. كما لا يُغفل المشروع بُعده العلمي، إذ يشكل التكوين المعرفي والبحث الأكاديمي أحد أعمدته الجوهرية، في سعيٍ إلى خلق فضاء يُزاوج بين التأمل والعمل، بين الحس الجمالي والفكر النقدي.

هنا، تغدو الرباط، وتحديدا حي المحيط، فضاء لنهضة فكرية حقيقية، تُعزز مكانة العاصمة حاضرة تحتضن الفكر والنقاش والإبداع الحي.

أكاديمية المملكة المغربية تُعيد للمدرسة دورها التنويري

من خلال إنجاز هذا المشروع، تؤكد أكاديمية المملكة المغربية موقعها كمنبر للحوار الثقافي، ورافعة للبحث العلمي، وحاضنة للفكر الفلسفي الحُر. ومن ثمَّ، فهي تنطلق من رؤية تعتبر الثقافة ليست ترفا نخبويا معزولا، بل شرطا جوهريا للتنمية، ومدخلا أساسيا لإعادة بناء الوعي الجماعي، وتفجير الطاقات الكامنة لدى الأجيال الصاعدة؛ ذلك أن الثقافة، في منظورها، لا تقتصر على إنتاج المعرفة، بل تتجاوز ذلك إلى دمقرطتها، عبر تحويلها إلى ممارسة يومية حية داخل فضاءات مفتوحة تُحفز الخيال، وتُحرك عجلة الابتكار.

إن اختيار حي المحيط، أحد أحياء الرباط الشعبية ذات الرمزية التاريخية والاجتماعية، يعكس بُعدا ديمقراطيا وثقافيا عميقا؛ فليس الهدف إنشاء مركز ثقافي في برج عاجي، بل إدماج الثقافة في النسيج اليومي للمدينة، وإعادة الحياة إلى أماكن تمثل الذاكرة الحية لسكانها.

وهكذا، لا يظل المشروع حبيس رمزيته، بل يتحول إلى رهانٍ جوهري على الإنسان، وعلى ما يملكه من طاقات خلاقة، تؤهله ليكون فاعلا في مجتمعه، ومُسهِما في إنتاج المعنى والقيم، لا متفرجا على سيرورة التغيير، بل جزءا منها ورافعة لها. من المدرسة إلى المركب الثقافي، ومن التعليم التقليدي إلى التكوين الإبداعي، ومن التلقين إلى التفاعل، تتجلى ملامح رؤية ثقافية متكاملة تؤمن بأن الثقافة ضرورة للعيش المشترك وصناعة للمستقبل.

من صرح تعليمي إلى مركز إشعاع فكري

يُعيد مشروع أكاديمية المملكة المغربية التذكير بأن المكان لا يفقد روحه إلا حين يُهمل ويُسلم للنسيان، وأنه قادر على استعادتها متى أُعيد توطينه ضمن أفق ثقافي يُنعش ذاكرته، ويمنحه معنى متجددا لوجوده، ويُحمله رسالة جديدة تنبع من جوهره، وتفتح أمامه إمكانات العطاء في الحاضر والمستقبل. وهذا هو جوهرُ الرؤية التي تنطلق منها أكاديمية المملكة المغربية؛ رؤيةٌ تؤمن بأن إحياء الأمكنة لا يُختزل في ترميم بنيتها المادية أو تجميل معالمها الظاهرة؛ بل يتجاوز ذلك إلى بعث الروح فيها، وتجديد الوعي الجماعي بها، باعتبارها جزءا من الذاكرة الثقافية، ورمزا للهوية المشتركة. إن المكان، في هذا الأفق، لا يبقى مجرد إطار جامد؛ بل يغدو مصدر إلهام، وفضاء لصناعة الأفكار، واحتضان الإبداع، في تفاعل حي ومستمر بين الماضي والحاضر، وبين التراث والمعرفة، وبين الإنسان وما ينشئه من أفق جديد للابتكار.

تحية تقدير لأكاديمية المملكة المغربية على هذا الإشعاع الثقافي الذي يُضيء دروب الفكر، ويُعلي من شأن المعرفة، على مبادرتها الرصينة التي تنسجم في عمقها مع رسالتها الفكرية النبيلة في رعاية الإبداع وتأصيل المعرفة وصون الذاكرة المغربية في تجلياتها التاريخية والحضارية والرمزية.

 

google-playkhamsatmostaqltradent